الشعور بالنقص وآلياته المعرفية
التمييز بين نقصنا الواقعي والشعور بالنقص أو بعقدته ضروريان لأن الشعور المرسل بالنقص بمنزلة سلاح تدمير شامل يقوّض أي قدرة على النهوض والعمل... غرضنا هو المقارنة، وهي تبقى جزئية ومهدّدة في كل لحظة بالانحطاط إلى مستوى المعايرة ما لم نوسع قاعدة المقارنة لتشمل عوالم حضارية وثقافية أخرى.
«الغرب متفوّق ونحن في مرتبة متدنية حضارياً»... هذا واقع مؤسف، لكن لا جدال فيه في ما نرى، على أنّ غرضنا من قول ذلك لا علاقة له من قريب أو بعيد بعقدة نقص تجاه الغرب ولا باحتقار للذات، إنما الغرض وعي النقص من أجل التخلّص منه، فنحن «ناقصون» فعلاً، وإنكار النقص ليس إلا نقصاً في الشعور بشروطنا الراهنة، ولا ينبغي للسعي السليم إلى التحرر من عقدة النقص أن يلتبس بإنكار نقص حقيقي في مؤسساتنا ونُظمنا ووعينا، ولا للتطلّع الواجب إلى التحرر من ازدراء الذات أن ينزلق إلى تمجيد أجوف لها.إن وعي النقص هو شرط التحرّر من عقدة النقص، وهذا لا يتأتّى من دون نقل النقص من مجال الشعور حيث الاختلاط والشمول وعدم التمييز، إلى الوعي حيث التحديد والوضوح والضبط والانفصال، وعقدة النقص لا تتولّد عن تقرير النقص، وما تقرره هو أننا ناقصون تكوينياً وجوهرياً، وأننا لا نتحرر من نقصنا من دون الانسلاخ عن ثقافتنا ولغتنا وأدياننا، والالتحاق غير المشروط بالمتقدمين، هنا يمر التحرّر من نقصنا الذاتي بالتحرر من الذات نفسها، وهذا في ما نرى موقفٌ متطرفٌ، يشكّل طباق موقف من يرى «أننا مستغنون بما في أيدينا، بالإسلام عن كلّ شيء آخر» على رأي السيد يوسف القرضاوي... هذان معاً موقفان إيديولوجيان، نميز عنهما موقفاً ثالثاً يعتبر نقصنا واقعياً ويسعى إلى جعله موضوعا لمعرفة، وعمل منظم يتجاوزه. التمييز بين نقصنا الواقعي والشعور بالنقص أو عقدته ضروريان، لأن الشعور المرسل بالنقص بمنزلة سلاح تدمير شامل يقوّض أي قدرة على النهوض والعمل... غرضنا هو المقارنة، وهي تبقى جزئية ومهدّدة في كل لحظة بالانحطاط إلى مستوى المعايرة ما لم نوسع قاعدة المقارنة لتشمل عوالم حضارية وثقافية أخرى، أعني بالمعايرة اعتبار أحد الطرفين معياراً، كاملاً بالتعريف، للطرف الآخر... الغرب معيار لنا، ولأنه كامل باعتباره معياراً، فنحن ناقصون بقدر ما لا نطابقه، أي أن المعايرة تنكر الاختلاف مبدئياً، وتردّ كل اختلاف إلى نقص أو تخلّف، وهو بالطبع ما يستفيد في أوضاعنا الراهنة من تخلّف حقيقي لا ريب فيه، لكنه يتحوّل هنا إلى تخلّف مطلق، أما المقارنة فتقابل طرفين أو أطرافًا مختلفة من دون أن تجعل أياً منهما معياراً لغيره، وهي لا تنكر المعيار، ولا شرعية الحكام المعيارية، لكنها تعتبر المعيار تركيباً ذهنياً نبنيه من المقارنة وليس سابقا عليها وشارطا لها، ومن وجهة نظر المقارنة التخلف حقيقي، لكنه نسبي ويمكن تداركه. ثمة مقاربة ثالثة، ترفض المعايرة لكنها تنكر إمكان المقارنة نفسها، وتصادر على أن المختلف هو الوحيد الموجود، أو على أن الاختلاف مطلق، فترفض المعيارية تماماً، وهي المقاربة ما بعد الحداثية، التي تصدر عن نسبية مطلقة، ولامعنى هنا للتخلف إطلاقاً، وهذه المقاربة يرتاح إليها دعاة الخصوصية والأصالة الثقافية والحضارية، خصوصاً الإسلاميين، وتدعم في هذا المقاربة ما بعد الحداثية الذهنيات ما قبل الحداثية. ويعمل منهج المعايرة، على جعل الغرب معياراً جاهزاً ونهائياً، في خدمة الشعور (لا الوعي)، ويخدم ترسيخ عقدة النقص (لا وعي النقص). يعرضه بعضنا بفظاظة حين يلحّون بتشفٍّ على أن الغرب أصل لكل تجديد، وأننا في المقابل عُراة من أي مساهمة في حضارة العالم، ليس غرضهم في الأغلب ترسيخ النقص، بل شحذ روح النقد وإرادة التغيير، بيد أن من شأن جعل المعيار مطلقاً أن يفضي عند ممارسيه إلى نقد خارجي لأوضاعنا، نقد بلا تضامن (يتماهى الناقد بالغرب)، وأن يغرس شعوراً معقداً بالنقص عند مستهلكيه، ويتعين القول إن نقد المعيارية الغربية هو نقد لتمثيلاتنا وليس للغرب نفسه، بل إن نقدها ضروري لفهم الغرب نفسه من دون غلالات مثالية تقول عنا أشياء من دون أن تقول عنه شيئاً. ولا يقف ضد عقدة النقص هذه غير عقدة كمال أو تفوّق، هاذيةً أو منفصلة عن الواقع، نجدها في أوساط الإسلاميين، الأمر هنا لا يتعلّق بوعي مناسب بالنقص، باتّزان نفسي وروحي، بتصالح مع النفس وانفتاح مع العالم، بل بتمركز مفرط حول الذات وازدراء للعالم، يتناسبان دوماً مع معرفة محدودة للذات والعالم معا، ومن المألوف أن ينقل الموقف هذا إلى معيارية مقلوبة، تجعل من الذات الإسلامية المفترضة معياراً للعالم، وسيد قطب يقول ذلك صراحة. ومن الآليات المعرفية العاملة في خدمة الشعور بالنقص آلية التفسير بالغياب؛ تفسير جوانب من أوضاعنا الاجتماعية والسياسية بنقص أو غياب الديموقراطية أو العلمانية أو «الوعي المطابق» أو نظرية علمية أو ما إلى ذلك. يقال إن ثقافتنا ضعيفة الإبداعية بسبب غياب الحرية، وإن الطائفية مزدهرة في مجتمعاتنا بسبب غياب العلمانية، وإنه ثمة تشدد ديني بسبب غياب الليبرالية... وهذه التفسيرات إما دائرية (نعرف العلمانية بأنها تزيل الطائفية فتكون الطائفية نتاج غياب العلمانية...) أو أنها تفسر بما يحتاج هو نفسه إلى تفسير: غياب الحرية أو العلمانية... فضلاً عن أن الآلية التفسيرية هذه تجعل من الديموقراطية والعلمانية مطلقات لا تاريخية يتعذّر فهمها، دع عنك نقدها، والقول إن التفسير هذا مثالي بالمعنى الفلسفي لا يعدو الصواب، رغم أن أكثر متوسليه ينسلون أنفسهم إلى اتجاهات فكر علمية ومادية وعقلانية وعلمانية. وفي جميع الأحوال ليس التفسير بالغياب إلا غياباً للتفسير، أي لتمييز الظاهرة المعنية والكشف عن شروطها وأسبابها الموجبة، إن ضعفنا الثقافي مثلاً يقتضي النظر في تراثنا الثقافي ونوعية نظام التعليم وأحوال طبقة المثقفين ومدى استقلالها المادي والسياسي وعلاقتها بالسلطات والطبقات الاجتماعية وما إلى ذلك، والطائفية قد تفسر بسوية الاندماج الوطني ومستوى التنمية وشروط الحقل السياسي ومنافساته وصراعاته ونوعية النخب السياسية والاجتماعية إلخ... فـ»الاجتماعي يفسر بالاجتماعي» على قول بيير بورديو، لا بما فوقه من أفكار ومُثُل ومعايير وعقائد، ولا بما دونه من جغرافيا ومناخ وموارد طبيعية... والمقولات الاقتصادية نفسها لا تفيد مباشرة في تحليل الاجتماعي، وتحتاج إلى شغل إعدادي عليها، «تأهيلها اجتماعياً»، كي تكون مفيدة. لكن كيف يخدم التفسير بالغياب ترسيخ الشعور بالنقص؟ ببساطة لأنّ هذا التفسير يحيل إلى مثال كامل (معيار)، ولمّا كان التطابق مع المثال متعذراً، كان لابد أن تولّد الإحالة إليه الإحباط والشعور بالنقص... هذا فضلاً عن أن التفسير بالغياب هو أصلاً تفسير بالنقص، لا يقترح لتجاوزه غير التطابق مع معيار معروف وجاهز، وهكذا تجعل «سياسة» التطابق هذه من الاقتداء والتبعية نهجاً للتقدّم والتحرّر، وبقدر ما هو مستحيل، فإن عقدة النقص المتولدة عن استحالته ممكنة وواقعة، والتحرر منها ممكن أيضا، ويقتضي في آن وعي نواقصنا ونقد المعايرة والتفسير بالنقص أو الغياب. * كاتب سوري