مهما كان تقويم الأمم المتحدة ودورها سلبياً، لكن غيابها لن يجلب السلام إلى العالم وسيكون أكثر فداحة وسلبية وفوضى، الأمر الذي يستوجب تطوير فكرة التدخل لأغراض إنسانية وإبعادها عن فكرة التوظيف السياسي والحلول العسكرية والمعايير المزدوجة والانتقائية في التعامل.حينما تسلّم بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة منصبه (مطلع العام 2007) من سلفه كوفي أنان كان اليأس والقنوط مخيّمين على العالم بعد احتلال أفغانستان والعراق والعدوان الإسرائيلي على لبنان العام 2006 وما ترتب على ذلك من تداعيات وإشكاليات إقليمية ودولية، خاصة ارتفاع الشكوك بشأن دور ومستقبل المنظمة الدولية وقدرتها على حل المشاكل القائمة، لاسيما السياسية منها، وإطفاء بؤر التوتر، وإنهاء الحروب، وتحقيق العدالة الدولية.
لعل النجاحات التي حققتها الأمم المتحدة على هذا الصعيد كانت محدودة للغاية بسبب الحرب الباردة والصراع الإيديولوجي المحتدم بين المعسكرين الشرقي والغربي، لكن تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار الكتلة الاشتراكية زاد الوضع سوءاً، خصوصاً في ظل محاولات فرض الهيمنة والتسيّد في العلاقات الدولية، الأمر الذي جعل المشكلات تكبر بشأن مستقبل الأمم المتحدة خصوصاً عدم تمكنّها من حل بعض المشكلات العالقة منذ تأسيسها، خاصة تأمين حقوق الشعب العربي الفلسطيني، وزاد المسألة تعقيداً تفشي الفساد والرشوة الذي حركّه برنامج (النفط مقابل الغذاء) في العراق 1996-2003.
ورغم ضعف الدور السياسي للأمم المتحدة فهل سيؤدي غيابها إلى تحسين الوضع الدولي، الذي هو نتاج عمل الدول الاعضاء الـ 192 دولة، خصوصاً الدول المتنفذّة ، في مقدمتها الولايات المتحدة، أم أن الفوضى ستضرب أطنابها على المستوى العالمي وستتفاقم المشكلات في ظل غياب معايير وضوابط وقواعد وقوانين دولية رادعة!؟
من جهة أخرى، فالأمم المتحدة رغم ضعفها ومشكلاتها وتبعية جهازها السياسي أحياناً، فإنها مازالت تملك قدرات فريدة في حشد القوى وتعبئة الطاقات وتنسيق وتنظيم الجهود والفاعليات لعمل الحكومات والمنظمات الدولية، خصوصاً في قضايا مثل: اللاجئين في العالم (نحو 26 مليون لاجئ ونازح) وبرنامج الغذاء العالمي للأطفال وقضايا الصحة العامة ومكافحة الأوبئة مثل انفلونزا الطيور أخيراً وأبحاث ومعالجات مرض الأيدز (نقص المناعة) والاحتباس الحراري (رغم قلّة التخصصات في هذه المجالات).
لكن الأمم المتحدة التي لم تنجح في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين وحل المشاكل بالطرق السلمية ونبذ استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية، وهي أبرز أهدافها ومقاصدها، تراكمت التجربة، وإنْ كانت ناقصة ومثلومة، لكنها مهمة على الصعيد الفقهي أولاً، ومن ثم على الصعيد العملي، خاصة جدواها في بعض المناطق، ونعني بذلك تطويرها نظام الأمن الجماعي منذ تأسيسها في مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945، وهو ما أكدته المادة 51 من الميثاق التي شرّعت «حق الدفاع عن النفس» لحين اتخاذ مجلس الأمن التدابير المناسبة لردع العدوان واستعادة السلم والأمن الدوليين.
ورغم أن مسألة ردع العدوان والحفاظ على السلم والأمن الدوليين كانت معطلّة في السابق بسبب الحرب الباردة، لكنها لاتزال وظيفة مسيّسة بامتياز، ولم تنجح بعض الجهود بتجاوز الأمم المتحدة لبناء «نظام دولي جديد»، الأمر الذي عمّق الهوّة أحياناً وكانت قضية كوسوفو عام 1999 ثم قضية العراق عام 2003، خير دليل على الانقسام الدولي، الذي يستوجب العودة الى الأمم المتحدة كإطار دولي لبحث المشكلات التي تهدد السلم والأمن الدوليين. ورغم عدم إصدار مجلس الأمن الدولي قرارا بشأن العدوان الإسرائيلي على لبنان وتأخره في الدعوة إلى وقف إطلاق النار بسبب ضغوط الولايات المتحدة، فإن وصول الحرب إلى طريق مسدود عاد بفكرة تشكيل قوة لحفظ السلام من خلال الأمم المتحدة.
وقد ابتدع هذه الفكرة الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة داج همرشولد، ففي مبادرة منه ووزير خارجية كندا ليستربيرسول عام 1956 وبعد العدوان الأنغلو- فرنسي الإسرائيلي على مصر تقرر نشر قوات حفظ السلام، التي لا أساس لها في ميثاق الامم المتحدة. وخلال الأعوام الخمسين الماضية نشرت الأمم المتحدة قوات لحفظ السلام أكثر من 60 مرة، ويوجد حالياً ما يقارب (100) مئة ألف جندي دولي يرتدون القبعات الزرقاء في أنحاء متفرقة من العالم.
صحيح أن قوات حفظ السلام لم تكن مهمتها ناجحة دائماً، فقد أخفقت في البوسنة والهرسك ورواندا ولم تتمكن من وقف المذابح في التسعينيات من القرن الماضي، لكن دورها كان مشهوداً في تيمور الشرقية، وإلى حد ما في بوروندي وسيراليون، وساهمت في إنقاذ أرواح الكثيرين في جمهورية الكونغو الديموقراطية، لكنها لم تتمكن من منع أعمال العنف جميعها. وتسعى الأمم المتحدة حالياً الى إرسال قوات حفظ السلام مع الاتحاد الأفريقي إلى إقليم دارفور بالسودان.
ومهما كان تقويم الأمم المتحدة ودورها سلبياً، لكن غيابها لن يجلب السلام إلى العالم وسيكون أكثر فداحة وسلبية وفوضى، الأمر الذي يستوجب تطوير فكرة التدخل لأغراض إنسانية وإبعادها عن فكرة التوظيف السياسي والحلول العسكرية والمعايير المزدوجة والانتقائية في التعامل، وهي الفكرة التي دعا اليها الأمين العام السابق كوفي أنان عام 2000 وطوّرها عام 2005 ووافقت عليها الجمعية العامة، ولم يعد بإمكان الحكومات الانفراد بشعوبها.
ويتطلب الأمر أيضاً إصلاح الأمم المتحدة وتطوير ميثاقها ومعالجة نظام التصويت ووظيفة مجلس الأمن ومشكلة الفيتو للدول الدائمة العضوية، بما يعزز دور الدول النامية ويقترب من العدالة الدولية!!
كاتب ومفكر عربي