Ad

سواء فاز المرشح الديموقراطي أو الجمهوري في الانتخابات الرئاسية 2008، فإن موقف الاستراتيجية الأميركية لن يتغير من البقاء في العراق، أو الانسحاب منه، وغالباً ما يكون البقاء العسكري في العراق أطول فترة ممكنة هو القرار الأميركي الاستراتيجي «الأرجح».

أصبحت مسألة الانسحاب العسكري الأميركي من العراق مسألة مهمة للعالم العربي وللإعلام العربي على وجه الخصوص، وقد ازدادت أهمية هذه المسألة بعد التقارير الواردة من أميركا بشأن الانتخابات الرئاسية المقبلة 2008 التي تقول إن للحزب الديموقراطي الليبرالي الأميركي حظاً أوفر في النجاح فيها، وان هذا الحزب يلوّح في شعاراته الانتخابية بالانسحاب من العراق، في ما لو أصبح صاحب القرار في البيت الأبيض، وشعار الانسحاب هذا هو الشعار السياسي العاطفي غير الواقعي، الذي يماثله شعار مشهور في الانتخابات العربية، وفي أوساط الناخبين والمرشحين الدينيين (الإسلام هو الحل)، وشعار «ضرورة الانسحاب من العراق» هو الشعار الأبرز والأهم في الحملة الانتخابية للحزب الديموقراطي الأميركي، الذي يدغدغ به مشاعر الناخبين الأميركيين الذين يكرهون الحرب وويلاتها، والذين ما زالوا يعانون عقدة حرب فيتنام المؤلمة لهم، وللأجيال القادمة.

فالشعوب تعشق السلام، ولم تذهب يوماً إلى الحرب، والحكام وحدهم هم الذين يذهبون إلى الحروب، ويقودون الشعوب مرغمةً من ورائهم، فالحكام وحدهم هم المستفيدون من الحروب الخاسرة والرابحة، فإن خسروا فالشعب هو الذي يدفع الخسارة، وإن ربحوا فإنهم وحدهم الذين «يلهطون» عسل النصر.

قرار الانسحاب

صحيح أن شعار «ضرورة الانسحاب من العراق» هو الشعار الرئيسي في الانتخابات الرئاسية القادمة، فإلى أي مدى تصح واقعية هذا الشعار سياسياً؟ وهل يستطيع صانعو القرار الديموقراطيون في البيت الأبيض - فيما لو فازوا - أن يطبقوا قرار الانسحاب الفعلي من العراق؟ وما المنافع أو الأضرار التي ستلحق بأميركا، فيما لو انسحبت خلال عام 2008 أو 2009 من العراق، قبل أن تتخذ خطوات سياسية وعسكرية ضرورية في المنطقة، تضمن معها هدوء المنطقة واستقرارها، وقبل أن تؤمّن منطقة الشرق الأوسط تأميناً عسكرياً وسياسياً لمصالحها، بعد أن تكبدت كل هذه الأموال، وكل هذه الأرواح من عناصر جيشها، وبعد أن غامرت بتاريخها السياسي، وبصدقيتها كقطب أحادي أعظم في العالم؟

قبل الإجابة عن هذه التساؤلات، يجب التأكيد على أن القرار السياسي الأميركي الداخلي والخارجي ليس قرار أفراد، ولكنه قرار مؤسسات دستورية، ورئيس الجمهورية لا يستطيع الذهاب وحده إلى الحرب أو الانسحاب منها إلا بموافقة المؤسسات الدستورية المختلفة في البلاد، وهذه المؤسسات لا تمتلئ بزعماء قبائل ورؤساء عشائر وممولين وأصحاب مصالح تجارية، بقدر ما تمتلئ بنخب سياسية مثقفة ومسؤولة أمام ناخبيها، وذات باع طويل في العمل السياسي والشأن العام، ولكن كما يحصل في كل انتخابات في العالم وفي التاريخ البشري هناك شعارات سياسية مدغدغة لعواطف الناس تُلقى في الحملات الانتخابية، وهي بمنزلة «الشطّة» أو الفلفل الحار لفتح شهية الناخبين لتناول طبق المرشحين، ولكنها ليست هي الطبق الرئيسي، إنها نوع من «المُقبّلات» التي عادةً لا تُغني ولا تُسمن من جوع، ولكن يبقى الطبق الانتخابي الرئيسي، هو واقعية الشعارات وصدقيتها وشفافيتها، وقدرة المرشح على تنفيذ وعوده ليس بقوته الشخصية، ولكن بواقعية شعاراته وخطابه السياسي.

صعوبة الانسحاب الأميركي المبكِّر

سواء فاز المرشح الديموقراطي أو الجمهوري في الانتخابات الرئاسية 2008، فإن موقف الاستراتيجية الأميركية لن يتغير من البقاء في العراق، أو الانسحاب منه، وغالباً ما يكون البقاء العسكري في العراق أطول فترة ممكنة هو القرار الأميركي الاستراتيجي «الأرجح» لأسباب كثيرة منها:

1 - ان صناع القرار الأميركي في معظم المؤسسات الدستورية، أصبحوا يدركون أن محاربة الإرهاب على أرضه أفضل من محاربته على الأرض الأميركية مهما كان الثمن غالياً وجسيماً، صحيحٌ أن الوجود العسكري الأميركي في العراق، كان بمنزلة قضيب المغناطيس الذي جذب بُرادة حديد خُردة معظم الجماعات الإرهابية الدينية والقومية المسلحة إلى العراق، وكان أيضاً بمنزلة الشريط اللاصق للهوام والذباب، ولكن هذا الوجود العسكري الأميركي في العراق، وبالدرجة الثانية في أفغانستان، هو المبضع الذي فتح «دُمّل» الإرهاب المُتقيّح في العالم العربي، وهو الذي اخترق ونفَّضَ أعشاش الدبابير الإرهابية، التي كانت تكبر وتتضخم كل يوم، بحيث أصبحت معظم الأنظمة العربية عاجزة عن مواجهتها إلا بالحُسنى، وبالجزرة فقط، ولولا هذا الوجود العسكري لأصبحت الأنظمة العربية، ولاسيما المسيطرة منها على آبار البترول، هي وآبار البترول مهددة تهديداً خطيراً من قبل الجماعات الإرهابية التي تريد بجنون فانتازي أن تقيم أنظمة حكم دينية مماثلة لحكم «طالبان» في أفغانستان، وتلك هي الطامة الكبرى للعالم أجمع وليس للشرق الأوسط وحده، وأميركا لن تنسحب من العراق قبل التأكد تماماً من القضاء على أعشاش الدبابير الإرهابية، التي بدأت هذا العام تنهار وتقتل دبابيرها كما نرى الآن.

2 - منذ سنوات والنظام الإيراني يشتد ويقوى ويتطلع إلى دور سياسي وعسكري قوي في المنطقة، وقد تعاظم هذا الدور بعد غزو أميركا للعراق 2003، وأصبح الآن على ما هو عليه كما نرى، وفي ظل الوجود العسكري الأميركي في العراق، فما بالك لو انسحبت أميركا من العراق، وملأت إيران الفراغ كما تمنّت قبل مدة؟ إن أميركا في ظن كثير من المحللين السياسيين لن تنسحب من العراق ما لم تجد حلاً مرضياً لها وللأوروبيين بخصوص الملف النووي الإيراني، لاسيما أن السند الأوروبي لأميركا في هذا الشأن أصبح أقوى مما مضى بمجيء ساركوزي إلى الإليزيه، وتشدد الاتحاد الأوروبي عموماً تجاه الملف النووي الإيراني.

3 - رغم أن معظم الأنظمة العربية تُعلن جهاراً وتُرحّب علانيةً بانسحاب القوات الأميركية من العراق عاجلاً وليس آجلاً، مسايرة للشارع الديني والمؤسسات الدينية التي تنادي بهذا الشعار الديني/السياسي الرنّان، دون أن تدرك عواقبه، فإن هذه الأنظمة في داخلها لا تريد لهذا الانسحاب أن يتم قريباً قبل أن يستقر الوضع في العراق، ويتم القضاء على عناصر الإرهاب، لكي لا ترتد عناصر الإرهاب لها. زيادة على ذلك، فإن الأنظمة المعتدلة في العالم العربي تعتبر وجود القوات الأميركية في العراق ضمانة لها ضد أي أطماع إيرانية في المستقبل.

4 - إن المحور السوري - الإيراني - «حزب الله» - «الحماسي»، الذي يضم أقطاراً عربية أخرى بشكل غير مباشر، والمدعوم من روسيا ومن الصين بشكل خاص، مقابل المحور المصري- السعودي - الأردني- فريق 14 آذار اللبناني، المدعوم أوروبياً وأميركياً، يحتاج إلى قوة عظمى راصدة ومتيقظة له لكي لا يستطيع المحور الأول التغلّب على المحور الثاني في ظل الحرب الباردة الثانية الجديدة بين أميركا وروسيا الوريث السياسي للاتحاد السوفييتي، وحماية لأكثر من %80 من مخزون البترول العالمي، وهذه القوة العظمى موجودة الآن في العراق، وتكلفتها المالية والسياسية عالية، ولكن انسحابها المبكِّر سيكون أكثر تكلفةً سياسية وعسكرية من بقائها مدة أطول.

* كاتب أردني