نعم هكذا هي السياسة، لا عدو دائماً ولا صديق دائماً، ولا ملامة لأحد إن هو سار على هذه القاعدة في هذا العالم. لكن الملامة التي تستحقها حكومتنا وباقتدار، هي أنها وكما نقولها بالعامية «لا تدري عن هوا دارها».لا أدري إن كان الجو يسمح الآن بالحديث بشكل موضوعي عن قصة تأبين عماد مغنية وسبر أغوارها بالتحليل، أم أن النفوس لاتزال تخفق لرياح التأجيج، ولا تريد أن تستمع إلا لأصوات الداعين إلى تعليق أعواد المشانق في الطرقات!
على أي حال، سأحاول ذلك آملاً أن أجد أذناً مصغية، وسأقول إن أزمة تأبين عماد مغنية كشفت عن الكثير من الأشياء المضحكة المبكية عن واقعنا سياسياً واجتماعياً وفكرياً، وأبرز ما انكشف في هذه الأزمة هو الهشاشة السياسية والهزال الفكري العام اللذان اشترك في الإصابة بهما الجميع، سواء الحكومة أو نواب البرلمان أو الكتل السياسية أو الكتّاب أو النخب الفاعلة، إلا في النادر وباستثناءات قليلة جداً. اشتراك بعضهم في هذه الإصابة كان مفاجأة بالنسبة لي شخصيا «ولعلّي سأكتب عن هذه الجزئية في مقال لاحق»، في حين أنها كانت شيئاً متوقعاً بالنسبة لبعضهم الآخر.
لم يفاجئني تخبط الحكومة في تعاملها مع القضية، وانتظارها أسبوعاً كاملاً حتى تمكنت من الخروج عن صمتها والتصريح بموقفها تجاه المسألة، فهي مبدعة دائماً على هذا الصعيد، لكن الجديد هو اكتشافي أن انتكاستها أشد مما كنت أظن.
ابتداء الحكومة بتصريحين غامضين لوزيري الداخلية والخارجية، أحدهما مرسل على عواهنه والآخر يحتاج إلى عالم رياضيات لفك طلاسمه، وانتهاؤها بتصريحين متتاليين على لسان الوزير فيصل الحجي انتقل بهما عماد مغنية، وبفارق ساعتين فقط، من درجة «شخص تدور حوله الشبهات» إلى درجة «إرهابي تلوثت يداه بدماء الشهداء الأبرياء الطاهرة وكان وراء العديد من العمليات والجرائم الإرهابية وترويع الآمنين في مختلف بقاع العالم»، من دون ربطه صراحة بأي جريمة محددة تجاه الكويت، واكتشافنا اليوم أنها، أي الحكومة، لم تقم بأي مطالبة رسمية خلال السنوات الطويلة الماضية لعماد مغنية، بل لم توجه أي اتهام له أو لـ«حزب الله»، بل على العكس من ذلك اتسمت مواقفها بالإيجابية تجاه الحزب في لبنان من خلال بعثتنا الدبلوماسية هناك، يجعلنا نسأل ما الذي حصل اليوم يا ترى؟ هل تحول «حزب الله» في نظر حكومتنا اليوم وبمقتل عماد مغنية إلى «حزب الشيطان»؟!
أرجو ألا يظهر لي من يقول إن قضيتنا مع عماد مغنية بعينه، وليس مع «حزب الله»، لأن هذه مقولة مركبة الغباء، فالعمليات الإرهابية ليست جرائم عادية حتى نتهم بها رجلاً لوحده. عماد مغنية هو جزء أساسي من تنظيم سياسي، ويوم اغتيل كان قائداً لجناحه العسكري، فإن كنا نحمل العداء بشكل رسمي لكون مغنية قد اقترف جرائم في حق الكويت، فإن عداءنا «الرسمي» يجب أن ينسحب على تنظيمه السياسي.
ما اكتشفناه اليوم هو أن حكومتنا عجزت، ولاتزال، حتى عن إدارة صراعها مع من اقترف تلك الجرائم التي حصلت، فهي لم توجه اتهاماً رسمياً تجاه أي جهة من بعد حوادث الثمانينيات بما فيها حادثة اختطاف «الجابرية»، ولم يكن لها موقف ثابت واضح، بل إن مجمل الحديث آنذاك كان يشير إلى اتهام حزب الدعوة وليس «حزب الله»، وبعدما صار الغزو العراقي للكويت، وتحت تأثير هول صدمة انقلاب نظام صدام علينا، وهو الذي مجدناه وعشقناه ودعمناه، حكومة وشعباً، لسنوات طويلة بمليارات الدولارات في حربه العبثية مع إيران، انقلب الحديث إلى اتهام المخابرات العراقية بتنفيذ تلك الحوادث الإرهابية تجاه الكويت، وانقلبنا كذلك، من العداء تجاه إيران وكل مَن يرتبط معها إلى موقف بناء العلاقات الإيجابية والصداقة معها.
نعم هكذا هي السياسة، لا عدو دائماً ولا صديق دائماً، ولا ملامة لأحد إن هو سار على هذه القاعدة في هذا العالم. لكن الملامة التي تستحقها حكومتنا وباقتدار، هي أنها وكما نقولها بالعامية «لا تدري عن هوا دارها».
عماد مغنية وبكل بساطة هو «حزب الله»، وارتباط «حزب الله» الاستراتيجي بإيران ليس سراً خافياً. لذلك هل صارت حكومتنا اليوم، وبعدما استفاقت، ليس على دوي انفجار اغتيال عماد مغنية إنما على نعيق مَن أشعلوا الفتنة في الداخل، تتهم «حزب الله» بتلك الجرائم؟! وإن كان هذا حقاً، فكيف ستدير هذا الصراع الآن يا ترى؟! هل سيكون لها موقف سياسي خارجي من الحزب؟ أم أنها ستكتفي بإبقاء الموضوع للاستهلاك الداخلي عبر «تجريم» عماد مغنية بعدما مات، و«شيطنة» «حزب الله» على البعد من خلف آلاف الأميال، واتهام المتعاطفين معه بالخيانة والعمالة لإيران، وإن هي سئلت عن شيء على صعيد السياسة الخارجية فستكتفي بطريقة وزير الخارجية لا فُضّ فوه بالتصريح عبر معادلات الأرقام الصعبة التي لا تقبل القسمة على اثنين؟!