الأحزاب الصحفية

نشر في 02-06-2007
آخر تحديث 02-06-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد تراجعت الهيمنة الكاملة للمؤسسات الغربية على حقل الإعلام في العالم العربي، وشرعنا في الخطوة الأولى على طريق تحدي هذه الهيمنة في الحقل الإعلامي العالمي وإسماع العالم صوتنا، ولو كان خافتا، كما أن الصحافة المطبوعة وبعض القنوات التلفازية صارت تلعب دوراً بديلاً للأحزاب السياسية.

تحية كبيرة لـ«الجريدة» في أسبوع ميلادها الأول، وكما أن الأسبوع الأول من ميلاد أي إنسان عيد للعائلة، فالأسبوع الأول لميلاد صحيفة جادة مثل «الجريدة» عيد للأسرة الصحفية والإعلامية، بل هو في الواقع عيد للوطن كله ... لماذا؟

ربما لن تفهم الأجيال الشابة هذه الفكرة، لأنها لم تشهد حال الإعلام العربي حتى أقل من عقدين، لقد ولد جيل كامل بعد انطلاق قناة «الجزيرة» وبقية القنوات الفضائية العربية، وقد لا يستطيع أن يدرك مدى الألم الذي عاشته الأجيال الأقدم فيما يتعلق بحقها في المعلومات والإعلام.

عاشت هذه الأجيال «محنة إعلامية» مزدوجة، فمن ناحية لم يكن بوسعها أن تسمع قنوات إذاعية أو تشاهد قنوات تلفازية أو تقرأ صحفاً تتمتع بأدنى درجة من المصداقية، ولم تكن هناك أدنى درجة من الاعتراف بالحق في المعلومات أو حرية الصحافة، ولذلك ذهبت هذه الأجيال بعقولها إلى القنوات الإذاعية والتلفازية وإلى الصحف الأجنبية لكي تعرف ما يدور في بلادها، كانت هناك استثناءات قليلة، ولكنها كانت الاستثناءات التي تؤكد القاعدة.

وفي نفس الوقت كان النظام الإعلامي العالمي يهيمن بصورة شبه تامة على الإعلام العربي، فلم تكن المؤسسات الإعلامية العربية موجودة إطلاقا على خريطة الإعلام الدولي، واعتمدت هذه الأخيرة في معرفتها بالعالم وبما يجري في بلادها على وكالات الأنباء ومؤسسات الإعلام الغربية وحدها، وكان هناك شعور طاغ بأنه رغم الحرية التي تتمتع بها مؤسسات الإعلام الغربي، فإنها تعكس في نهاية المطاف التحيزات الثقافية والسياسية السائدة في بلادها الأم، ويتعين على الإعلاميين العرب أن يقرأوا أو يشاهدوا بلادهم، وهي تعامل بقدر لا بأس به من الازدراء أو الإهمال والتحيز في الإعلام الغربي المهيمن.

لقد تغير هذا الوضع بصورة ملموسة،

تراجعت الهيمنة الكاملة للمؤسسات الغربية على حقل الإعلام في العالم العربي، بل وبتكوين قناة «الجزيرة» الموجهة إلى العالم الخارجي نكون قد مشينا الخطوة الأولى على طريق تحدي هذه الهيمنة في الحقل الإعلامي العالمي وإسماع العالم صوتنا، ولو كان خافتا، والأمل أن تتلو هذه التجربة، بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف مع قناة «الجزيرة» وسياساتها الإعلامية، تجارب أخرى لتبث خطاباً عربياً أكثر تنوعاً من النواحي الثقافية والسياسية والمهنية.

لا نشهد نفس مستوى الحرية النسبية في تأسيس القنوات الإذاعية ولا حتى القنوات التلفازية الأرضية، ولا تزال هناك صعوبات كثيرة تحيط بالحق في تأسيس الصحف، وتصل هذه الصعوبات في بعض الدول العربية إلى حد الحظر الكامل،

ويبدو أن قدرنا هو أن نحصل على حرية الإعلام والمعلومات بطريقة تراكمية وغير مستوية وغير متوازنة وبالتقسيط، وخصوصا في مضمار حرية الصحافة المطبوعة، وينتج هذا «القدر» خواص جديدة تماماً علىنا كعرب في ما يتعلق بالحقل الاعلامي،

لقد اشرنا إلى حقيقة أولية وبالغة الأهمية، وهي تراجع احتكار الدولة والحكومة للحقل الإعلامي ومن ثم تراجع انفراد الحكومات بالتأثير على عقول الناس وانتهاء بمصداقية النموذج التعبوي والواحدي للإعلام، وتعد هذه الحقيقة الجديدة مثيرة للغاية لأنها تتناقض مع استمرار نموذج الدولة الواحدية أو التسلطية المسيطرة على الحقل السياسي والمانعة لدوران السلطة، وفي البلاد العربية التي نال فيها الإعلام والصحافة قدراً كبيراً من الحرية يتسع التناقض بين الدورة السياسية الجامدة والساكنة من ناحية، ودورة المعلومات والأفكار الحيوية من ناحية أخرى.

وفي عدد من المجتمعات العربية انبثقت حرية الإعلام في وقت كادت فيه السياسة تموت وتندثر بسبب الضعف الشديد للرأي العام والأحزاب السياسية وشدة القمع البوليسي، وترتب على هذه الحقيقة خاصية ثانية بالغة الأهمية، وهي أن الصحافة المطبوعة وبعض القنوات التلفازية صارت تلعب دوراً بديلاً للأحزاب السياسية، وقد تستمر هذه الخاصية فترة طويلة مقبلة حتى يتم إنجاز الانتقال الديموقراطي وينفتح دوران السلطة من جديد بعد عصر طويل من الجمود واحتكار السلطة وموت السياسة.

والواقع أن العرب لا ينفردون تماما بهذه الخاصية، ولكن بروز ظاهرة «الأحزاب الصحفية» تكاد تميز نموذج الانتقال المعذب والمعقد والقابل للمراوحة الطويلة للديموقراطية في العالم العربي، لقد ولدت الأحزاب السياسية في العالم الغربي من رحم البرلمانات، ولذلك كانت تسمى في البداية بالأحزاب البرلمانية، أما في الوطن العربي حيث البرلمانات ضعيفة والرأي العام فاقد لمؤسسات أصيلة للتعبير الحر عن نفسه، فتظهر الصحف فيه باعتبارها الرحم الممكن لولادة أخرى لأحزاب سياسية أكثر أصالة.

«لنا الصحف وحق الكلام ... ولهم السلطة وحق فعل ما يريدونه»، هكذا يلخص الكتّاب والناشطون السياسيون في دول عربية عدة المفارقة التي يعيشونها في ظل بيئة إعلامية أفضل وبيئة سياسية ساكنة واستبدادية. وتنطوي هذه السخرية المريرة من النفس ومن الحكومات معاً على نظرية تقول إن الصحافة والإعلام الحر يقومان بدور «تنفيسي» أو «تعويضي»، فهو «تعويض» عن الافتقار للحريات السياسية الحقة، وعن إمكان دوران السلطة، بل وعن الوظيفة الأساسية الحية للإعلام، وهي المحاسبة والمساءلة السياسية عن طريق إتاحة المعلومات، ولكن هذه السخرية على ما فيها من دلالات صحيحة تفتقر إلى فهم أعمق لعملية الانتقال الديموقراطي في بلاد مثل بلادنا العربية، وعلى العكس فان نظرية «الأحزاب الصحفية» تمنحنا فهما أفضل لتعقيدات هذا الانتقال الصعب.

فالحقل السياسي العربي بكل تياراته التقليدية صار متقادماً ولا يعكس وعيا ثاقبا بالتغيرات العاصفة التي تلم بالمجتمعات العربية، والأهم أن هذا الحقل لا يعكس بصورة واقعية الاختيارات الحقيقية الصعبة التي تواجه مجتمعاتنا العربية ككل وعلى انفراد، والبدائل التي تقدمها التيارات السياسية الكبري لا تزال شديدة وبالغة الغموض، ولن تتمكن بلادنا العربية من خوض غمار عملية أصيلة للانتقال من دون إنتاج تيارات أكثر قدرة على الإجابة عن أسئلة القرن الواحد والعشرين، وتبدو هذه العملية بدورها بالغة التعقيد لأنها تبدأ وتنهض بمسؤولية إنتاج خطابات واقعية وعملية ومدروسة بصورة أعمق وأكثر تعقيدا، وتبدو هذه هي مهمة الصحافة أكثر من أي حقل آخر.

وبهذا المعنى تقوم، أو يمكن أن تقوم، الصحافة بدور تأسيسي وليس تعويضيا، وبهذا المعنى نتحدث عن ظاهرة «الأحزاب الصحفية» بمعنى واقعي للغاية، وليس بالمعنى المجازي وحده.

وستستغرق الصحافة بعض الوقت قبل أن تنتج أحزاباً سياسية قادرة على تولي السلطة وتطبيق سياسات بديلة، ولكنها قد تبدأ سريعاً في إنتاج بدائل تعددية تصلح للترجمة في نماذج جديدة أو معنى جديد للحكومة والمعارضة، ومن هنا تشتد المنافسة على تأسيس صحف جديدة يستحق جميعها الاحتفال والتحية بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف لأنها بداية لسياسة وثقافة عربية جديدة.

back to top