هل ينتهي المطاف بباراك أوباما، وهو الذي أراد أن يكون وجه أميركا ما بعد الأعراق، المعبّر عنها وحامل لوائها، مرشحاً أسود لا أكثر، لا يشذ في ذلك عن «عاديّة» كان قد أرساها قبله القس جيسي جاكسون، الذي سعى إلى نيل ترشيح الحزب الديموقراطي ثلاث مرات، في 1984 وفي 1988 وفي 2004، ونال في إحداها (سنة 1988) نجاحات أرهصت بتلك التي حققها أوباما، إذ اصطفت إلى جانبه ولايات كثيرة، لا سيما في الجنوب؟

Ad

تلك أمنية، نعني إسباغ صفة المرشح العرقي على أوباما وحصره فيها، ما انفكت تراود الزوجين كلنتون، وكان بيل قد صرح بها في معرض دعمه ترشيح زوجته هيلاري و«تحجيم» منافسها أو تقزيمه، مذكّرا بمثال القس جيسي جاكسون إياه، ولكن الوقائع كذبتها طوال الفترة الماضية ومنذ بداية السباق على الظفر بترشيح الحزب الديموقراطي، غير أنها على ما يبدو عادت لتمدّها بأسباب الانتعاش.

فقد جدّ في الآونة الأخيرة ما أعاد أوباما إلى سواده وإلى شرطه العرقي ذاك، فخّا ينغلق عليه أو يهدده جدياً بذلك، وهو الذي سعى جاهداً إلى التحلل من تلك الرابطة «العضوية»، والتعسفية، بمعنى من المعاني، بصفتها تلك، ليس من باب التنكر لها، وذلك أمر متعذر على أي حال، بل من باب دعوة الأميركيين إلى «كلمة سواء» تجمع بين فئاتهم المتمايزة المتباينة المتصارعة، هي المواطَنة التي يتعين أن تكون رابطة تعاقدية، تحظى بالأرجحية على كل انتماء سابق عليها، خام أو ما قبل سياسي، أي إلى مواطنة بذلك المعنى الحديث والتنويري الذي يُفترض في الديموقراطية الأميركية، على ما يُدّعى، أن تكون أرقى تجلياته.

لم ينكر أوباما المسألة العرقية ولكنه أراد الانعتاق منها، وذلك ما ميز مسعاه عن ذلك الذي حاوله من قبل القس جيسي جاكسون «وقد كان ربما أكثر واقعية ووعيا بتمكّن ذلك المُحدد العرقي» حيث خاض حملاته تحت شعار «قوس قزح»، دعوةً تقرّ بالواقعة العرقية لا تتخطاها، ولكنها تنشد تذليل توتراتها وإرساء الانسجام بين مكوناتها. هي دعوة رجل كابد التمييز العنصري في صباه وشبابه الأول في ولايات الجنوب الأميركي، وانخرط في معركة الحقوق المدنية في الستينيات إلى جانب القس مارتن لوثر كينغ، ويعلم أن جيلا أو بعض جيل من الزمن، لا يمكنه أن يجبّ تاريخا من التفرقة مديدا، فآثر ربما التدرّج.

أوباما متأتٍّ من خلفية أخرى، فهو من أم بيضاء ومن أب كيني كان قد وفد إلى الولايات المتحدة طالبا، وهو لذلك لا تندرج مهانةُ الرقّ وحيف التمييز جزءا من تاريخه الشخصي، تَمثّل معاناة الأفارقة الأميركيين أكثر مما عاشها، إذ انخرط ناشطا في إحدى منظماتهم المدنية، و«اعتنق» المسيحية عبر أحد قساوستهم وانتمى إلى إحدى كنائسهم وتزوّج منهم، وهنا مكمنُ لُبسٍ أصلي، يقع في صلب مقاربة أوباما للشأن العام وقد يفجرها من داخلها: فهو، من حيث سيرته الذاتية عيّنة حية ورمز لا مراء فيه لذلك الأميركي ما بعد العرقي الذي يدعو إليه واتخذه محور حملته وحضوره في الفضاء العام، إلا أنه من وجه آخر وبالنظر إلى ما هو عليه واقع الحياة السياسية في الولايات المتحدة، لا يمكنه أن ينخرط في الشأن العام إلا من مدخل فئوي، وبديهي أن ليس من مدخل متاح له غير ذلك الذي توفره المجموعة العرقية الإفريقية الأميركية.

ولعل ذلك ما يفسر أن حملته لنيل ترشيح حزبه الديموقراطي قد انقسمت، على ما يبدو إلى طورين يتساوقان مع وجهيه ذيْنك: أولهما امتد حتى تمهيديات الرابع من مارس الجاري، خصوصا في لايتي تكساس وأوهايو. خلال ذلك الطور، لم يلحظ الناخبون في أوباما إلا «وجهه» ما بعد العرقي، أو أنهم «تعمدوا ألا يروْا سواده» على ما كتب محلّل أميركي، أُخذوا بخطابه الداعي إلى أميركا جديدة، إلى «وطنية أميركية» مُرتجاة تتسع أساسها المواطنة، فالتفوا من حوله كثيرين، متأتين من أوساط المتعلمين والنساء والشباب. معيار الإقبال عليه أو الانفضاض من حوله كان، في ذلك الطور، من قبيل طبقي أو متعلق بالشرائح الاجتماعية، بصرف النظر عن تطابقها مع الانتماءات العرقية من عدمه.

أما الطور الثاني فهو الذي أعقب ذلك التاريخ حتى هذه اللحظة، ويبدو أنه يميل إلى ترجيح الهوية العرقية للمرشح أوباما، أي إلى نسبته إلى الفئة العرقية التي «يصدر» عنها وإلى النظر إلى مُنجزِه السياسي من منظور ذلك الانتماء أو باعتماده وتوخيه. هكذا صير إلى التنبه أكثر فأكثر إلى حظوته بين الناخبين السود وتماهي هؤلاء معه، ثم جدّت قضية القس جيريميا رايت، فأعادت طرح المسألة العرقية بحدّة وإلحاح، إذ أُخذ على ذلك القس، الذي كان مرشد أوباما الروحي و«أدخله» المسيحية وتولى عقد قرانه، إدلاؤه بتصريحات اتهم فيها أميركا بالإرهاب وبدا فيها كالشامت بها إثر عدوان الحادي عشر من سبتمبر.

صحيح أن أوباما قد واجه تلك المشكلة وبدا كأنه نجح في تجاوزها، حيث ألقى خطابا حول المسألة العرقية، نال رضا 69 في المئة من الأميركيين حسب استقصاء للرأي، غير أنه من المرجح أن المسألة العرقية تلك قد اندرجت في النقاش العام وفي هذه الانتخابات على نحو لا رجعة فيه. لا يعود ذلك فقط إلى مساعي هيلاري كلينتون وفريقها إلى حصر منافسها في تلك الخانة لا يبرحها، وإلى أن دنوّ المعركة الانتخابية، ورهانها السلطة على رأس الدولة العظمى الوحيدة، يدفع إلى احتدادها على نحو لا يترك كبير متسع للأريحية وإلى المنافسة الشريفة ويعيد تعبئة الغرائز الدفينة وإعادة كل طرف إلى أصله وموقعه، وإلى استنطاق ميزان القوة بين الفئات كما هو قائم بالفعل في الواقع.

ولكن، وفضلا عن كل ذلك، هنالك تناقض أصلي، هو من السمات الملازمة للحملات الانتخابية في الديموقراطيات، يواجهه أوباما والأرجح ألا يهتدي إلى وسيلةِ تذليله، هو المتمثل في أن الحملات تلك تمثل منبرا لا يضاهى لطرح الأفكار والدعوة إليها، خصوصا ما كان منها جديدا، إلا أنها، ولأن هدفها الوصول إلى السلطة في نهاية المطاف، تنتهي إلى وأد كل جديد، سعيا إلى نيل إجماع الجموع، وهذه لا تجمع عادة إلا على ما كان متدنيا أو غريزيا أو مطمئنا يستعيد مألوفاً.

لذلك، سيتعذر على أوباما، سواء نال ترشيح الحزب الديموقراطي أو لم ينله، أن يكون مبشرا ومرشحا في الآن نفسه... ما قد يهدد بإبقاء البيت الأبيض بين أيدي الجمهوريين.

* كاتب تونسي