نعم. (كتاب) عوّضت عن قلّة صفحاته سماكة الأوراق، وسماكة الغلاف الفاخر. (كتاب) ثمنه خمسة عشر دولاراً بالتمام والكمال، أي بواقع دولار للصفحة الواحدة!للكاتب الأميركي (بول أوستر) ما يزيد على ستة وعشرين كتاباً توزعت بين الرواية والشعر والدراسة والقصة السينمائية، لكن لم يعرف عنه اهتمامه بكتابة القصة القصيرة. ولذلك فإننا نستطيع فهم حيرته وارتباكه عندما طلبت منه «نيويورك تايمز» كتابة قصة من أجل نشرها في صبيحة عيد الميلاد.فإضافة إلى أن هذا ليس حقله المفضل في الكتابة، يدرك (أوستر) أن قصص عيد الميلاد تنعقد تقليدياً على الخرافة أو الوجدانية المفرطة، وهو ما لا قبل له به أيضا. ونحن لا نعلم، على وجه الدقة، ما إذا كان هذا الأمر صحيحاً أم لا، لكن لأن (أوستر) يقول لنا ذلك بلسانه شخصياً وليس من وراء قناع شخصية قصصية، فإننا نميل إلى الاقتناع بأنها محنته الشخصية فعلا، وإن كنا، في الوقت ذاته، نعتقد أنه يشاغلنا بكذبة فنية من أجل استدراجنا لتصديق حكايته.إنه، على أي حال، يتخفف سريعاً من ثقل هذه المهمة، بإلقائها على كاهل شخص آخر سماه (أوغي رين)، وهو رجل مفعم بالحيوية، ويعمل في دكان لبيع السيجار في الحي الذي يقطنه (أوستر)، لكن الطريف في الأمر أن مسألة الكذب لا تنتهي عند هذه النقطة، بل تتخذ مسارات متعددة ومتراكبة، بحيث يصارحنا (أوستر) بأنه لا يعرف ما إذا كان (أوغي) الذي أخرجه من ورطته، قد روى له قصة واقعية أم انه اختلقها. غير أنه ليس مستعدا لمساءلته عن هذا الأمر، لأن ما يهمه، في النهاية، هو أنه قد حصل منه على قصة جيدة. وكأن (أوستر) يطالبنا ضمنا بعدم التوقف لمساءلته عن هذا الأمر، لأن ما يهمه، في النهاية، هو أنه قد حصل منه على قصة جيدة. وكأن (اوستر) يطالبنا ضمنا بعدم التوقف لمساءلته هو أيضا عن هذا الأمر، معتمداً على معرفتنا المسبقة بأن القاص الجيد هو كذاب كبير!.يبدأ (أوستر) الحكاية بنبذة عن (اوغي رين) الذي تعرف عليه منذ ما يقرب من أحد عشر عاماً، لأن الدكان الذي يعمل فيه يبيع نوعاً من السيجار يفضله الكاتب.ويقول لنا إن علاقته به لم تتجاوز التحية العابرة، أو الحديث الخاطف عن الطقس أو السياسيين. لكن حدث، منذ بضعة أعوام، أن كان (أوغي) يقلب إحدى المجلات، فوقعت عيناه على عرض نقدي لأحد كتب (بول أوستر)، وقد عرف حالا أن المعني هو زبونه الدائم، لأن صورته كانت مرفقة بالموضوع. ومنذ تلك اللحظة لم يعد الكاتب مجرد زبون آخر من زبائن (أوغي)، بل تحول إلى صديق حميم وحليف يأخذه بالحضن ويحييه بحرارة، ذلك لأن (أوغي)، ويا للعجب، كان يعتبر نفسه فنانا أيضا!ًنعلم، في ما بعد، أن الحقل الذي يمارس فيه (أوغي) فنه هو حقل التصوير الفوتوغرافي. ولان (أوستر) قد بات صنوه وحليفه، فقد سأله ذات يوم، عما إذا كان مستعداً لإلقاء نظرة على الصور التي التقطها.في اليوم التالي قاده (أوغي) إلى غرفة بلا نوافذ في آخر الدكان، وأطلعه على عمل حياته الذي قال انه لم يأخذ منه اكثر من خمس دقائق في اليوم.ففي السابعة من صباح كل يوم، طوال أحد عشر عاماً، كان (أوغي) يقف في زاوية ثابتة بين (اتلانتك افينيو) و(كلينتون ستريت) ليلتقط صورة واحدة للمنظر نفسه! وقد تجمع لديه، نتيجة ذلك أكثر من أربعة آلاف لقطة، وزعها على أحد عشر ألبوما يستعرض كل منها سنة مختلفة.يدهش (أوستر) لهذا العمل الغريب، ويقلب صفحات الألبوم الأول بسرعة، لكن (أوغي) المسرور باستعراض عمله، ينصحه بأن يتأنى في مشاهدة الصور، لكي يستطيع أن يلاحظ التغيرات بين صورة وأخرى ويعمل (أوستر) بنصيحته، فيتأكد لديه أن (أوغي) ليس شخصاً عادياً، بل هو فنان حقيقي، ويخطر في باله أنه في عمله هذا قد حرص على تصوير (الزمن) يوماً بيوم، من خلال تجليه في مظاهر الطبيعة والناس معاً، ويزداد تقديره للرجل عندما يتضح له أنه يدرك حقا ما يفعله، وذلك حين سمعه يردد كلاماً لشكسبير: (غداً وغداً وغداً... الزمن يزحف بخطواته الصغيرة).حتى هنا لم تكن القصة المعنية قد بدأت، لا، المفترض أن يكون (أوغي) هو راويها.لكن الكاتب، بحديثه عن الصور والمصور، قادنا الى أداة جوهرية في سياق الحكاية الموعودة وهي: آلة التصوير.يقول (أوستر) انه أفضى بهمومه لصديقه (أوغي)، وأبدى له عجزه عن التفكير بقصة تصلح لأعياد الميلاد، كالتي طلبتها الصحفية منه ووافق هو مبدئياً على كتابتها.وعندئذ قاطعة (أوغي) قائلا: قصة لعيد الميلاد؟ أهذا هو كل ما في الأمر؟ لا عليك.اشتر لي وجبة غداء، وسأروي لك أفضل قصة كريسماس سمعتها في حياتك، وفوق هذا أضمن لك أن كل كلمة فيها حقيقة تماماً.وروى (أوغي) أنه منذ أحد عشر عاماً ضبط مراهقاً متلبساً بالسرقة من دكانه، فاستوقفه صارخاً، لكن الفتى لاذ بالفرار، فانطلق من ورائه ليطارده من شارع الى آخر، ولاحظ قبل أن يغيب المراهق عن نظره، أن ثمة شيئاً قد سقط من جيبه، فتوقف ليلتقط أنفاسه، ثم انحنى ليلتقط ما سقط من اللص، فإذا به محفظة، عندما فتحها لم يجد فيها نقوداً، لكنها كانت تحتوي على صورة للشاب وهو يلعب البيسبول، وثانية مع امرأة متقدمة في السن، إضافة إلى إجازة لقيادة السيارة.ومع أن صورة اللص واسمه وعنوانه قد صارت في حوزة (أوغي) فإنه، بدافع الاشفاق عليه، لم يبلغ الشرطة، وبقيت المحفظة بكل محتوياتها مطروحة على إحدى طاولات شقته.وفي ليلة عيد الميلاد، لم يجد (أوغي) من يدعوه إلى قضاء السهرة، ومكث في شقته وحيداً وحزيناً، فلما وقع نظره على المحفظة فكّر في أن يقوم بعمل طيب في هذه الليلة فارتدى ملابسه ومضى إلى عنوان اللص لكي يعيد إليه محفظته.قرع الجرس وانتظر طويلا، فجاءه بعد حين، صوت واهن لسيدة عجوز تسأله من وراء الباب عمّن يكون... فأجاب: انني أبحث عن روبرت غوردوين، فقالت المرأة: أهذا أنت يا روبرت، ثم فتحت الباب، فإذا بها تبدو في أواخر الثمانينيات من عمرها، ولاحظ (أوغي) أنها عمياء، عندما قالت له باستثارة المحبور قبل أن تحضنه بحنان: كنت أعرف أنك لن تنسى جدتك إيثيل في ليلة عيد الميلاد.عندئذ وجد (أوغي) نفسه، لفرط التأثر والإشفاق، يساير المرأة في اعتقادها، فاحتضنها قائلاً: نعم يا جدتي... لقد جئت لأراك بمناسبة العيد.وبعد ذلك عاد على أعقابه ليشتري طعاماً وفيراً ومنوعاً، ثم تعشّى مع العجوز وأمضى بصحبتها وقتاً طويلاً تبادلا فيه شتى الأحاديث وضحكا كثيراً، وعلى الرغم من أنه كان يعتقد جازما بأن العجوز لابد أن تكون قد أدركت أنه ليس حفيدها حقاً، فإنه لم يحاول تكدير سحر تلك اللحظات بالاعتراف بالحقيقة، فقد كفاه أن كلا منهما لائذ من وحدته بصحبته شخصا آخر يشاركه العشاء في تلك الليلة، وهذا هو المهم.وعندما احتاج (أوغي) إلى التبول، فوجئ بأن جانباً من حجرة المرحاض في شقة العجوز، كان يشغله كوم من ست أو سبع آلات تصوير بصناديقها، فأدرك أن هذا المكان هو واحد من مخابئ اللص الصغير، ومع أنه لم يلتقط في حياته صورة واحدة، ولم يجرب السرقة أبداً، فإنه ما ان رأى آلات التصوير أمامه، حتى قرر من دون تردد أن يستولي على واحدة منها.وفي آخر السهرة غفت العجوز مغمورة بالسعادة، فترك (أوغي) محفظة حفيدها على الطاولة، وغادر الشقة حاملاً معه آلة التصوير، ليعيش بعد ذلك أشهراً عدة من العذاب تحت وطأة تأنيب الضمير، لأنه كذب وسرق لأول مرة في حياته، ولما فكر في فترة لاحقة بإعادة الآلة، كانت العجوز قد غادرت شقتها نهائياً، ربما لأنها غادرت الحياة!وبتلك الآلة بدأ (أوغي)، منذ ذلك الحين، عمل حياته ذا الأربعين ألف صورة!وخارج سياق تلك القصة الجميلة، نأتي إلى سياق جميل آخر يتعلق بصناعة الكتب: إن قصة (أوستر) التي لم تتجاوز ست عشرة صفحة من القطع الصغير، والتي تناغمت معها ست عشرة لوحة لرسام الكتب الأرجنتيني البارع (إيسول)... قد تحولت إلى كتاب قائم بذاته. نعم. (كتاب) عوّضت عن قلّة صفحاته سماكة الأوراق، وسماكة الغلاف الفاخر. (كتاب) ثمنه خمسة عشر دولاراً بالتمام والكمال، أي بواقع دولار للصفحة الواحدة!يحدث هذا بالطبع، في ذلك (الغرب الكافر) الذي لم تقيض له الأقدار أن ينعم بسعادة (فسطاطنا) الغارق في سحر الأمية العذبة، والذي يثمن الآثار الأدبية بقيمتها الفنية لا بضخامة حجومها، والذي يطفئ أبصاره الغالية في (القراءة)، لا في مشاهدة (الفيديو كليبات) أو ( فيديو الكلبات)... لافرق!* شاعر عراقي تنشر بالتزامن اتفاقاً مع صحيفة «الراية» القطرية