الحرية وحدها لا تصنع إعلاماً جيداً

نشر في 16-09-2007 | 00:00
آخر تحديث 16-09-2007 | 00:00
 ياسر عبد العزيز تُكرس الجماعات الصحافية في غير دولة عربية جُل اهتمامها للحصول على المزيد من الحريات، على اعتبار أن ذلك سيؤدي تلقائياً إلى تقدم المهنة وارتقائها، وهو أمر محلّ شك كبير.

واليوم تشهد دول عربية عدة جدلاً حامياً حول الحريات الصحفية فيها؛ إذ يتفاعل التضاغط ذاته بين سلطة تود أن تكثف القيود وتخفض السقف إلى أقصى درجة ممكنة، وجماعة مهنية وقوى وطنية ترغب في أن تزيل القيود كلها وترفع السقف إلى أقصى حد متاح.

ولا شك أن نضال القوى المهنية والوطنية من أجل توسيع هامش الحريات في أوطانها يعد أحد أسمى أنواع النضال؛ فليس هناك ما هو أفضل من طلب الحرية في ظل الظروف والأوضاع التي تعيشها أقطارنا، وليس هناك أي مجال من مجالات العمل الوطني يمكن أن ينتعش ويتطور من دون حريات.

لكن اختصار أزمة الإعلام العربي في مسألة الحريات وحدها، ورهن تجاوز كل إشكال أو تخلف أو اعتوار مهني في هذا المجال، بتحقيق المزيد من الحرية خطأ كبير وخداع للجمهور وللذات في الوقت نفسه.

والدليل على ذلك أننا، ربما، نعرف جميعاً أن الحرية المطلقة لا تعطي أفضل إعلام في العالم بشكل تلقائي، بل إنها ربما تعطي شكلاً آخر من أشكال الممارسة الإنسانية، يمكن أن نشخصه الآن أو لاحقاً، لكنه من دون شك قد يخرج من حيز الإعلام كمهنة لها قواعد وأسس معينة، قد تضغط على ممارسيها أحياناً، وربما تحرفهم عن الممارسة السوية، لكنها، على أقل تقدير، تبقيهم قيد المهنة ذاتها ولا تدفعهم بالكامل خارجها، كما يفعل الاستبداد المطلق.

فمخاطر الحرية الكاملة قد تساوي تقريباً مخاطر الاستبداد المطلق على صناعة الإعلام، وفي الوقت ذاته فإن زيادة مساحة الحريات في مجتمع ما لا تترجم مباشرة إلى تقدم إعلامي، وبصيغة أخرى فإن زيادة الحريات ليست العامل الوحيد الذي يؤدي إلى ارتقاء الإعلام؛ إذ إن ثمة عوامل عديدة أخرى يجب أن تؤخذ في الحسبان، ومن دونها لا يتطور الإعلام.

كلنا يعرف ما الدول التي تمتلك أقوى المنظومات الإعلامية في وقتنا الحاضر؛ وكلنا يعرف أيضاً أنها ليست الدول التي تتصدر أدلة وتصنيفات الحريات الإعلامية في العالم. ففي تقرير «دليل حرية الصحافة»، الذي صدر عن منظمة «صحافيون بلا حدود»، في العام 2005، تصدرت فنلندا قائمة دول العالم لجهة توافر الحريات الصحفية، وهو الأمر الذي لم ينعكس مباشرة بالطبع على وسائل الإعلام الفنلندية، التي لا نكاد نعرف عنها شيئاً.

وفي الدليل نفسه نجد أن بنين احتلت المرتبة الخامسة والعشرين، متقدمة على دول عريقة ومتقدمة إعلامياً بدرجة كبيرة؛ مثل الولايات المتحدة وفرنسا، التي احتلت المرتبة الثلاثين. كما أن مالي حلت في المركز السابع والثلاثين، وموزمبيق في المركز التاسع والأربعين.

كذلك جاءت دول حديثة الاستقلال والعهد بالتجارب الديموقراطية في مراكز متقدمة؛ مثل سلوفينيا التي احتلت المركز التاسع، وناميبيا في المركز السابع والعشرين.

وتقول المنظمة إن الدليل يدحض الحجج القائلة إن الدول الفقيرة والحديثة العهد بالديموقراطية لا يمكن أن تمتلك منظومات صحفية حرة، لكنها لم تقل إن ذلك لم يؤد بالضرورة إلى تطور الأداء الإعلامي في تلك الدول، رغم كونها تنعم بمستويات من الحرية أفضل وفق هذا التصنيف.

والواقع أننا لسنا بحاجة إلى تصنيفات أخرى جديدة لنتأكد من هذا الطرح؛ فكلنا يعرف أن الدول الاسكندنافية مثلاً تحظى بأكبر قدر ممكن من الحريات السياسية والاجتماعية، خصوصاً فيما يتعلق بمجالات النشر والبث، لكنها في الوقت ذاته لا تتمتع بمكانة مهمة في عالم الإعلام.

كما أن دولاً كبيرة بالمقاييس كلها؛ مثل اليابان التي تمتلك ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وإيطاليا العضو في «مجموعة الدول الثماني»، وكلتاهما تتمتعان بقدر من الحرية كبير، لا تمتلكان إعلاماً مهماً، بل لا تسعيان إلى منافسة دول الصدارة الإعلامية التقليدية التي لا تحظى، ربما، بمساحات الحرية ذاتها فيما يتعلق بقضايا النشر تحديداً.

وفي كندا أجريت دراسة على عينة من الأطفال في سن الثانية عشرة، فخرج الباحثون بنتيجة مذهلة؛ فنحو 35 في المئة من هؤلاء الأطفال لا يعرفون أنهم كنديون، والسبب أنهم لا يتعرضون لوسائل الإعلام الكندية، ولا يحصلون على المعلومات أو الترفيه سوى من وسائل إعلام أميركية.

وبرغم أن كندا إحدى دول «مجموعة الثماني»، وتعرف نمواًً اقتصادياً مطرداً وجيداً، فإن ذلك كله لم يشفع لإعلامها، ويضعه في مكانة تتناسب مع قدرة البلد ومقوماته.

صناعة الإعلام تحتاج إلى حرية، ربما أكثر مما تحتاج إليها أنشطة إنسانية ومهنية أخرى عديدة، لكنها تحتاج أيضاً إلى عوامل أخرى كثيرة حتى تتقدم وتنمو وتحافظ على وجودها ذاته.

بل الأكثر من ذلك، فقد تؤدي الحرية المفرطة إلى نتائج وخيمة على صناعة الإعلام بالذات شبيهة بتلك التي يفضي إليها الاستبداد المطلق. وفي مساحة بين الحرية المطلقة والاستبداد المطلق تتحرك المنظومات الإعلامية في العالم أجمع اليوم، فيما تتصدر المشهد تلك المنظومات التي استطاعت أن تستفيد من قدر الحرية المتاح لها وتبني مؤسسات قادرة على حصد ثقة الجماهير، فيما قد تغيب عن الصدارة منظومات تتمتع بقدر من الحرية أكبر.

لا يجب أن نتوقف عن النضال من أجل الحصول على المزيد من الحرية، لكن الحرية وحدها لن تصنع إعلاماً متقدماً، فثمة الكثير مما يجب أن نفعله لنحصل على هذا الإعلام.

* كاتب مصري

back to top