أصيبت الأوساط الثقافية الأردنية، قبل بضعة أشهر، بدهشة عندما منحت جائزة الدولة التقديرية للروائي والناقد والمترجم الراحل غالب هلسا. مصدر الدهشة أن غالب هلسا توفي قبل ثماني عشرة عاماً في تابوت. وكان الكاتب الذي تكوَّن ثقافياً ونضجت تجربته في عواصم عربية عديدة، ليست عمان بينها، رحل عن وطنه إلى بغداد ثم الى بيروت ليستقر أكثر من عشرين عاماً في القاهرة. قبل ايام توقع المركز الأردني للخدمات السمعية والبصرية، الجهة المنتجة لمسلسل «سلطانة» المأخوذ عن رواية غالب هلسا والذي سيعرض في رمضان المقبل، أن يتصدر قائمة أعمال الدراما الاجتماعية الأكثر جرأة والتي تتناول التاريخ الاجتماعي الأردني المعاصر. ينتظر أن يشكل العمل الذي أخرجه الأردني إياد الخزوز نقلة نوعية في مجال الدراما الاجتماعية بما يتضمنه من غوص في تفاصيل واحدة من أهم المراحل التي عاشها المجتمع الأردني مجسدا التطورات الاجتماعية والسياسية التي شهدها الأردن منذ تأسيس الدولة. يجسد أدوار البطولة في هذا العمل عدد من نجوم الدراما العربية منهم: قمر خلف، وائل نجم، لارا الصفدي، زهير النوباني، نادرة عمران، ياسر المصري، عبدالكريم القواسمي، كندا علوش ومحمد القباني.
طي النسيان
قد تكون «سلطانة» غالب هلسا الرواية الوحيدة المتوافرة في المكتبات اللبنانية بطبعة رديئة وغلاف سيىء. هذا الروائي اللامع كتب الكثير عنه وصدرت تحليلات كثيرة عن رواياته وعالمه الروائي إنما لا تزال كتبه خارج التداول ولا نعرف السر؟ هل يتبرع احدهم ويعيد إصدار تراثه الروائي العريق الذي يشهد له أم يبقى طي النسيان؟ لا نعرف. يبدو ان الكتابات لن تنفع في ردّ الاعتبار لهلسا. قد يعيد المسلسل المقتبس عن «سلطانة» تسليط الضوء على اعماله كلها، علماً أن الروائي أتمَّ كتابة أجزاء من «سلطانة» في بيروت.وفقد أحد الأجزاء قبل خروجه منها عام 1982. وأعاد في دمشق كتابة الجزء المفقود. يقول عن ذلك: «ابتدأت كتابة أجزاء من هذه الرواية قبل حصار بيروت، وبعد الخروج من بيروت واستقراري في دمشق كنت قد انتهيت منها كما أنَّني اعتمدت على الذاكرة في تدوين أحداث الرواية». تحكي الرواية عن الأردنّ في الخمسينات وتسجِّل أهمَّ الحوادث التي شهدتها ومنها ظهور الحركة الشيوعيَّة وبروز فئات من المجتمع مثل تُجَّار الحبوب والحشيش. وتقدِّم هذه االحوادث في تلك الفترة من خلال شخصيَّة سلطانة المرأة القويّة التي تهيَّأَت لها الظروف ليكون لها دور في الحياة السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. سبب كتابة الرواية تبيِّنه الرواية نفسها، فعزَّة صديقة جريس في القاهرة توجّه إليه سؤالاً عن سبب عدم رغبته في العودة إلى الأردنّ فيُجيبها إجابة طويلة هي الرواية نفسها. إنه ما يصرّح به غالب في مقابلة معه. يعود إلى الماضي ويكتب رواية سلطانة ردّاً على ذلك التساؤل لعزَّة حتى إنَّها تعلّق على إجابته بقولها إنّها أطول إجابة عن سؤال سمعتها في حياتها. ومن شخوص الرواية ايضاً شخصيّة أمينة المغايرة لشخصيَّة سلطانة فأمينة هذه كان يدعوها جريس أمّه، على اختلاف ديانتيهما، لأنّها أرضعته حين مرضت أمُّه بالحمَّى. وفي الجزء الثاني من الرواية نرى تلك الشخوص تنتقل إلى مدينة عمّان، وتنضم إليها شخوص جديدة تتَّصل بجريس، مثل رفاقه الشيوعيين وزملائه في مدرسة المطران. من رفاقه، نضال الشاعر الموظّف في وكالة الغوث، النائب أحمد المساعد، موسى السوالمة، طعمة معلِّم اللغة الإنكليزيَّة الذي يتعرَّف إلى أميرة ويقدّمها إلى النائب أحمد المساعد، مدير مدرسة المطران ومدرّس اللغة الإنكليزيَّة فيها. وفي الجزء الأخير من الرواية نتابع الحوادث من خلال وجهة نظر شخصيّة عزّة التي تتذكَّر علاقتها بجريس، ثم وجهة نظر سلطانة متذكرة علاقتها بزوجها حكمت وابنتها أميرة، ومسعد الذي دفعته إلى التخلُّص من زوجها حكمت.
يعتبر النقاد ان شخصية غالب هلسا تجسدها في شخصية جريس. لذا تنطوي الرواية على بعض من «سيرة» غالب في الأردن. ورغم أن الرواية- كما يقول الراوي- هي رد على سؤال عزة (حبيبة جريس في القاهرة) عن سبب رحيله عن الأردن وعدم عودته إليه، الأمر الذي جعله يستعيد تلك الحياة كلها، إلا أن القارئ سرعان ما ينسى عزة والقاهرة ويندمج في أجواء أردنية، بدءاً من قرية ماعين (بلدة المؤلف) وصولا إلى عمّان بكل تفاصيل الحياة فيها.
مدن
جريس يجسد غالب إذ يلتقي معه في أمور عديدة: نشأ في ماعين ودرس في مدرسة المطران ثم سافر إلى بيروت ليدرس في جامعتها الأميركية. وكما يقول جريس نفسه «عشت في مدن كثيرة: عمان، دمشق، بيروت، القاهرة، بغداد، أديس أبابا، برلين وتونس وأحببت نساء في كل هذه المدن، ولكنني لم أعرف قط وجها أثارني وظل يلاحقني كوجه سلطانة في تلك اللحظة». أما سلطانة فهي، على ما تبدو في الرواية، أكثر من امرأة طبيعية أو حقيقية.
من هو؟غالب هلسا أديب اردني ولد في 18 ديسمبر 1932. توفي في اليوم ذاته من عام 1989 في دمشق عن سبعة وخمسين عاماً. تنقل غالب في سائر البلاد العربية، من لبنان الى مصر والعراق وسوريا، فضلاً عن وطنه الاردن الذي تركه في الثامنة عشرة متوجهاً الى بيروت للدراسة في الجامعة الاميركية. لكن الشاب الذي كان بدأ محاولة الكتابة في الرابعة عشرة أُجبر على قطع إقامته في لبنان والعودة الى وطنه ليغادره مرة اخرى الى بغداد، ثم ترك بغداد الى القاهرة حيث أنهى دراسته الصحافة في الجامعة الاميركية. أقام غالب في القاهرة ثلاثة وعشرين عاماً متصلة عاملاً في الترجمة الصحافية ويكتب قصصاً وروايات ويترجم الادب والنقد، ويؤثر بشخصه وأعماله وثقافته في جيل الروائيين والقصاصين والشعراء الذي أطلق عليه في ما بعد «جيل الستينات». عام 1976 أُجبر غالب هلسا على ترك القاهرة الى بغداد التي غادرها بعد ثلاث سنوات الى بيروت حيث أقام الى ان اجتاحت القوات الاسرائيلية العاصمة اللبنانية فحمل السلاح وظل في خنادق القتال وكتب عن تلك المرحلة نصوصاً تجمع بين التحقيق الصحافي والقصة. ثم رحَل مع المقاتلين الفلسطينيين على متن إحدى البواخر الى عدن ومنها الى اثيوبيا ثم الى برلين. أخيراً حطت به الرحال في دمشق حيث عاش حتى وفاته.