في علاقتنا مع الغرب تنغلق علينا دائرة مكونة من ثلاث حلقات: استبداد حضاري غربي دونما رتوش، تتكثف فيه العلاقة مع الغرب في أنهم يحتقروننا ونحن نكرههم، واستبداد سياسي محلي، ليس منفصلا بدوره عن العلاقة الشرق أوسطية، فإما أن الاستبداد ضروري لحماية «السلام»، أو أن «حالة الحرب» المفترضة توفر للاستبداد ما يحتاج من مسوغات. أما العسر الحضاري العربي فهو محصلة للأمرين معا.من شأن الفشل المتمادي في تحقيق تقدم حقيقي على طريق السلام بين أطراف عربية وإسرائيل بعد 17 عاماً من تفاوض متقطع أن يشير إلى عوائق أشد بنيوية مما يفضل أن يرى فاعلون ومراقبون سياسيون غربيون، منخرطون في تفتيت القضايا، ومنشغلون بالإجراءات على حساب الجوهر السياسي للقضايا المعنية على نحو ما ظهر مرة أخرى في مؤتمر أنابوليس قبل شهور قليلة؛ ومما يستطيع أن يرى فاعلون ومراقبون عرب ضعفاء ومنفعلون ومشوشون، يولون استمرار حكمهم أهمية لا يداينها شيء آخر. والعوائق هذه حصيلة دعم متطرف من قبل قوى غربية لا تقبل المساواة مع غيرها، ووعي ذاتي إسرائيلي يرفض بدوره المساواة أو الندية مع الفلسطينيين والعرب أيضا.
لكن، إن كان ثمة عوائق بنيوية، فلماذا إذن تحقق السلام بين كل من مصر والأردن؟ أليس هذا سلاماً «حقيقيا»؟ إنه سلام من نوع ما، لكنه حائز على خاصية استثنائية تطعن في «حقيقيته» إلى حد بعيد: إنه محروس بقوة إسرائيل ودعم الغرب، والأهم بكفالة أميركية لنظامي الحكم في البلدين. أي أن النظامين يحرسان السلام المفترض بدلا من أن يحرسهما السلام، وأن استقرارهما من مقتضيات السلام المزعوم هذا بدل أن يكون هو ركنا من أركان استقرارهما. هذا لأنه سلام دون عمق ثقافي، دون ثقة بين الأطراف، دون إخلاص ومودة بين العرب والإسرائيليين؛ باختصار هذا سلام لا سلام فيه. لا مودة ولا إخلاص ممكنين بين السادة والعبيد. والعلاقة الشرق أوسطية، إن صح التعبير، التي تجمع عربا وإسرائيليين وغربيين، فيها شيء طبقي وعنصري وطائفي معاً. هل من منافس لمفهوم الاستعمار من أجل وصف هذه العلاقة؟ وهل يمكن تصور سلام بين من يتجاوز دخلهم 25 ألف دولار سنويا ومن يتدنى دخلهم عن 5 آلاف؟ وهل من سلام ممكن بين من يعتبر دمه عزيزاً ودم غيره مبتذلاً لا ضير في سفكه كل حين؟ هل كان الفارق بين الدم الأزرق النبيل والدم الأحمر العامي أكبر من الفارق بين دماء اليهود الإسرائيليين ودماء العرب الفلسطينيين؟ وهل من يعتبر دينه وثقافته و«حضارته» متفوقين على غيره، يرضى بسلام لا يثبت تفوقه هذا؟
نريد القول إن العائق دون السلام في الشرق الأوسط طبقي طائفي أو «حضاري». لا بمعنى أن المتحضرين يعاملوننا، نحن غير المتحضرين، بتعال غير مقبول، ما يبعث بيننا مزاجا انتقاميا وعاجزا في الوقت نفسه (من مخارجه الممكنة الإرهاب)، بل كذلك بمعنى أنه لا مناص من بعد اجتماعي حضاري في أي حل للنزاع، يعالج الأبعاد الطبقية والطائفية والعنصرية للنظام الشرق أوسطي، وينزع نحو المساواة في الحق والسياسة والاحترام. وإذا أخذنا بالاعتبار أن الأديان الإبراهيمية الثلاثة متورطة في العلاقة الشرق أوسطية فإن الحل الحضاري ربما يقتضي اختراقا في المجال الديني والعلاقات بين الأديان أيضا.
ويبدو أن كل الناس عندنا يدركون تلك الأبعاد الاجتماعية الحضارية، يبقون لذلك شديدي الحساسية حيال كل ما يفعل الطرف الإسرائيلي وحليفه الأوثق، الأميركي. وهذا ما يجعل ثقافتنا السياسية حربية وقلما تخطئ مهما أغربت. لماذا؟ لأن لها حليفاً غير منتظر: دكتاتورية النظام الشرق أوسطي السياسية والطبقية والحضارية؛ أو قل إن المشكلة في الشرق الأوسط ليست مشكلة استبداد فحسب كما في دولنا، بل هي استبداد ثقافي أو حضاري، يرفض فيها المستبد الإسرائيلي وظهيره الغربي المساواة مع من يستبد بهم.
وهنا أيضا بلا ريب أصل عسر حضاري باهظ نعانيه، فنحن لا نستطيع أن نتماهى مع الغرب المتفوق والمتمدن لأسباب تتصل بالذاكرة والثقافة والدين، وتنشطها الصراعات «الحضارية» الحديثة. علما أن التماهي وسيلة تحضر لا منافس لها. والتماهي الإسلامي لا يحل أياً من مشكلاتنا الحضارية والسياسية، وتقف دونه عوائق بنيوية كبيرة لا تكاد تجعل من حصيلته طائفة لا تختلف عن غيرها إلا بأنها لا تعي أنها طائفة؛ تتوهم نفسها أمة، بل «الأمة». ولعل هذا الشرط نفسه يفسر ضعف التراكم الثقافي لدينا طوال قرنين من الزمن، وضعف فاعلية المثقفين.
وهكذا تنغلق علينا دائرة مكونة من ثلاث حلقات: استبداد حضاري غربي، واستبداد سياسي محلي، وعسر حضاري حقيقي. هذا استعصاء، حركة في المكان بلا تقدم.
استبداد حضاري غربي: دونما رتوش، تتكثف العلاقة بين العرب والغرب في أنهم يحتقروننا ونحن نكرههم. تبادل الاحتقار والكراهية واسم لكل علاقة غلبة تدوم أمداً كافياً كي تتشرب قيما ثقافية. وليست علاقتنا بإسرائيل غير تجسيد أقصى لتبادل للاحتقار من قبل القويّ الغالب والكراهية من الضعيف المغلوب. أي سلام ممكن على هذه الأرضية؟ لا المصريون والأردنيون يحبون الإسرائيليين اليوم، ولا هؤلاء يحترمون أهل مصر والأردن.
استبداد سياسي محلي: ليس منفصلا بدوره عن العلاقة الشرق أوسطية، فإما أن الاستبداد ضروري لحماية «السلام»، أو أن «حالة الحرب» المفترضة توفر للاستبداد ما يحتاج من مسوغات. الاستبداد باق في الحالين، وهو نسخ على مستوى دولنا لبنية النظام الشرق أوسطي، فكما السيادة العليا لأميركا والسيطرة للمحور الأميركي الإسرائيلي وتتوزع مراتب الخضوع على الدول والمجتمعات الشرق أوسطية، كذلك السيادة المحلية للمستولين على الحكم، والسيطرة لأجهزتهم الأمنية والحزبية، ومراتب الخضوع موزعة حسب القرب والبعد من المتولين المستولين. هذا وحده، وبصرف النظر عما تقوله الخطابات المعلنة، يحكم بالتهافت على أي اعتراض عربي على العلاقة الشرق أوسطية من داخلها، أي دون مساس بالاستبداد المحلي.
أما العسر الحضاري العربي فهو محصلة للأمرين معا، وسيكون شاقاً جداً تحقيق تقدم حضاري مستدام عندنا، في المشرق، دون حل مشكلتي إسرائيل والاستبداد. لكن قد يكون الأساسي هو مواجهة إعاقاتنا الذاتية على المستوى الثقافي والديني خصوصاً، ومن شأن هذا أن يغير ما بنا إذ يغير ما بأنفسنا، فيؤسس لتراكم حضاري جديد ولسيادة جديدة.
* كاتب سوري