مسيحيو العراق... قرابين على مذابح عيد الفصح!
لاشك في أن وقف مأساة المسيحيين العراقيين وتمكينهم من نيل حقوقهم كاملة وغير منقوصة، يتطلّب استعادة هيبة الدولة عبر بناء مؤسساتها، لاسيما قواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية على أسس وطنية وغير مذهبية سداها ولحمتها الولاء للوطن في إطار مرجعية الدولة والمواطنة الكاملة وسيادة القانون والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان.
أثار مقتل رئيس الأساقفة بولس فرج رحو، موجة جديدة من القلق الشديد إزاء مصير المسيحيين ومستقبلهم في العراق، لاسيما أن انفلات العنف وغياب سلطة القانون واستشراء دور المليشيات ضاعف من تقليص فرص الحماية بالنسبة لهم، خصوصاً أنه ليس لديهم ميليشيات أو عشائر تحميهم وتدافع عنهم، وحيث يستقبل المسيحيون هذه الأيام أعياد الفصح، فهم يستذكرون أيضاً ومعهم جميع المدافعين عن قضايا الحقوق والحريات والمواطنة والمساواة والدولة المدنية، ما تعرّضوا له خلال العام الماضي، لاسيما أن مقتل عدد من رجال الدين وتفجير عشر كنائس وتعاظم نسبة المهجرين، كان المشهد الأكثر بروزاً في عام 2007، حتى الآن!كانت نسبة المسيحيين في العراق قبل الاحتلال تبلغ نحو 3%، أي بما يراوح بين 750 و900 ألف. أما اليوم وبسبب ارتفاع منسوب الهجرة ومعدلاتها، فقد انخفض عددهم إلى 500 ألف أو ما يزيد عليها قليلاً، وهم يعيشون في هلع دائم وخوف مستمر، خصوصاً أنهم أصبحوا هدفاً مباشراً لأعمال الانتقام والتطهير والابتزاز، لدرجة تدفع إلى الاعتقاد بأن أعمال التنكيل والاستهداف المنهجي، تقترب من الإبادة والاستئصال لأسباب تتعلق بالعقيدة والدين والنظرة التعصبية اللامتسامحة.ولأنه لا يوجد مَن يحمي المسيحيين، فقد التجؤوا إلى قوات التحالف الدولي «المحتلة» وإلى القوات العراقية لحمايتهم، الأمر الذي جعلهم هدفاً «مشتركاً» لأكثر من جهة، رغم خذلان الجهات التي التجؤوا إليها لحمايتهم.منذ شهر أغسطس 2004، اتهم تنظيم «القاعدة» بتفجير خمس كنائس في بغداد، كما تم تفجير عدد من الكنائس في كركوك، ولوحق المسيحيون في البصرة والموصل وكركوك إضافة إلى بغداد، لاسيما في منطقة الدورة، حيث أجبرت حوالي 200 عائلة مسيحية على ترك منازلها بعد أن تم تخييرها بين دفع الجزية (250 ألف دينار عراقي بما يعادل 200 دولار شهرياً) أو اعتناق الإسلام بإشهار إسلامهم (يونيو 2007)، خصوصاً بعد أن شهدت بعض أحياء بغداد المسيحية ملصقات ومنشورات تدعو النساء المسيحيات إلى ارتداء الحجاب، وهو ما حصل في الموصل والبصرة أيضاً، حيث اضطرت مئات العوائل إلى النزوح والهجرة. وكانت مدينة البصرة المشهود لها تاريخياً بالتعايش والتسامح بين الأديان والطوائف، حيث يعيش المسيحيون بسلام وأمان كجزء من النسيج البصري النابض بالحيوية، فقد شهدت منذ مطلع العام 2004، حملة شديدة من جانب الميليشيات المسلحة ضد المسيحيين وتفجير محالهم الخاصة ببيع الخمور وصالونات الحلاقة ومحال تسجيلات الأغاني والأفلام (كاسيت وسي دي). وتواصلت هذه الحملة في مايو 2007 مقترنة بمطالبة «أهل الذمة» المسيحيين بدفع الجزية والنساء بارتداء الحجاب، وإلاّ ستكون العواقب وخيمة. لقد عانى المجتمع المسيحي العراقي اغتيالات طالت مئات المسيحيين وعمليات اختطاف بهدف الحصول على الأموال «الفدية» سواءً من جانب عصابات الجريمة المنظمة، أو من الجماعات المسلحة، الأمر الذي اضطر عشرات الآلاف منهم إلى ترك مناطق سكناهم والنزوح إلى إقليم كردستان العراق، أما القسم الأكبر فقد هاجر إلى دول الجوار «سورية والأردن وتركيا ولبنان» على أمل الحصول على فرصة للهجرة إلى أوروبا. لقد تعرّض المسيحيون لحملة شديدة من الترويع، حيث تم وضع اليد على ممتلكات عشرات ومئات العوائل التي أجبرت على الهروب من مناطق سكناها أو مغادرة العراق، وحتى من اضطر إلى الهرب فلم يكن ذلك بمعزل عن دفع رشوة للمسلحين للسماح لهم بالمغادرة، ويبرر بعض المتطرفين الإسلامويين حملة ملاحقة المسيحيين بأنهم جماعة مشكوك بولائها وأنها جزء من الطابور الخامس وقسم من المسيحيين عمل مع قوات الاحتلال وتم استغلالهم من الجماعات المسيحية التبشيرية الأجنبية المعادية للإسلام، الأمر الذي حمّل المسيحيين بالجملة وزر الاحتلال والجماعات التي تعاونت معه، وهو ما يتناقض وجوهر الإسلام وكتابه الكريم: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»! وإذا كانت بعض بلدان أوروبا قد عرضت على بعض اللاجئين المسيحيين حق اللجوء كما أكّد ذلك كوشنير وزير خارجية فرنسا وشوبل وزير خارجية ألمانيا، فإن هذا ليس الحل المطلوب، لاسيما أن هدفه سياسي واضح ولا يشمل سوى بضع مئات من المسيحيين، في حين أن مشكلتهم هي أكبر من ذلك وتتعلق بوجود الاحتلال، وانفلات الأمن، والتقاسم الوظيفي والمذهبي والطائفي، وغياب مبادئ المواطنة والمساواة التامة، ناهيكم عن ضعف روح التسامح والمشترك الإنساني، ولعل تلك المشكلة السياسية-الحقوقية والإنسانية، لا يمكن حلّها إلاّ في إطار عراقي وديموقراطي وفي ظروف سلمية وطبيعية وعلى أساس دستوري.ولا شك في أن وقف مأساة المسيحيين وتمكينهم من نيل حقوقهم كاملة وغير منقوصة (مواطنين لا ذميّين) يتطلّب استعادة هيبة الدولة عبر بناء مؤسساتها، لاسيما قواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية على أسس وطنية وغير مذهبية سداها ولحمتها الولاء للوطن في إطار مرجعية الدولة والمواطنة الكاملة وسيادة القانون والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان. إن استهداف المسيحيين وإكراههم على الهجرة يشكّل خسارة جسيمة للنسيج المجتمعي العراقي وللثقافة العراقية، حيث شارك المسيحيون بحيوية متميّزة في إثراء وإغناء الفكر والثقافة في العالم العربي في حقول العلم والأدب والفن وغيرها، ليس في العراق فحسب، بل إن المسيحية الشرقية كان دورها مشرّفاً منذ حروب الفرنجة (ولا نقول الحروب الصليبية) إلى حركة التنوير والإصلاح ومن ثم في مرحلة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية والدفاع عن مصالح الأمة العربية ومستقبلها، إضافة إلى الأقوام والملل الأخرى، كجزء أصيل من الموزاييك العراقي والعربي ومن المشترك الإنساني والسلام المجتمعي.ولعل مفارقة نسب المسيحيين إلى الغرب والتشكيك في وطنيتهم، هي إساءة إلى عمق انتمائهم إلى هذه المنطقة وحضاراتها التي كانوا مكوّناً أساسياً من مكوّناتها!!إن المساواة والحرية والهوية المتفاعلة مع العدل هي جوهر المواطنة العضوية اللاذميّة وغير التمييزية! * باحث ومفكر عراقي