أميركا اللاتينية والنزعة الإقليمية الجديدة
كنا نسمع قديماً أن «السياج الجيد بين الجار والجار يجعل العلاقة بينهما طيبة». ولا شك أن هذه الكلمات تحمل في طياتها قدراً عظيماً من الحكمة، إلا أن الوقت قد حان لإعادة تقييم المقصود من تعبير «السياج الجيد». لقد بات من الضروري في عالم اليوم أن يكون ذلك السياج منخفضاً إلى الحد الكافي للسماح لكل منا بأن يصافح جاره.
نحن نحيا على كوكب تفسد صورته شبكة من الحدود المتقاطعة، التي ظل الإنسان يرسمها ثم يعيد رسمها طوال التاريخ، وذلك وفقاً لأوهام أو نزوات، وكثيراً ما أسفرت محاولات الدفاع عن هذه الحدود إلى إراقة أنهار من الدماء. فبطبيعة الحال، كانت هذه الحدود تفتقر دوماً إلى الكمال، واليوم أصبحت النقائص التي تعيب هذه الحدود ظاهرة جلية على نحو جديد.إن تدفق موجات المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم بسبب الفقر واليأس، يؤدي إلى المزج بين الصراعات التي قد تخوضها دولة ما وبين صراعات دولة أخرى. فتغير المناخ الناجم عن الدمار البيئي في مكان ما من العالم قد يؤدي إلى الفيضانات والأعاصير والجفاف والمجاعات في مكان آخر من العالم، كما أصبحت سهولة السفر والانتقال عبر أنحاء العالم سبباً في انتشار الأمراض بسرعة أكبر. لقد بات لزاماً علينا أن ندرك على نحو متزايد أن حدودنا ليست عبارة عن جدران منيعة. بل هي في واقع الأمر مجرد خطوط رسمناها في الهواء.باختصار، لا تستطيع أي أمة على وجه هذا الكوكب المتقلب المتقلص أن تعالج مشاكلها في معزل عن مشاكل الدول الأخرى. ولا تصدق هذه الحقيقة في أي مكان في العالم أكثر من صدقها في أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، حيث أسفرت ضربات التاريخ المتفاوتة والسياسات الوطنية المتنوعة عن خليط من المصائر التي تنتظر شعوبنا المتعددة. واليوم عبر الحدود أحياناً وداخل الحدود أحياناً أخرى أصبحت الثروات التي ما كان لأحد أن يتصورها ذات يوم قائمة جنباً إلى جنب مع الفقر المدقع والشرور الاجتماعية بكل أشكالها. لقد أصبحت منطقتنا عامرة بالتناقضات القاسية.ولكن مما يدعو إلى التفاؤل أن العديد من البلدان في هذا القسم من العالم أدركت أن قضية الرخاء الإقليمي لا بد وأن تعالج باعتبارها تحدياً إقليمياً. وإنه لمن دواعي افتخاري أن تكون كوستاريكا بين هذه البلدان. ورغم أن أمتنا قد تكون صغيرة، فإن التزامنا برفاهية ورخاء هذه المنطقة ليس ضئيلاً على الإطلاق.إننا نضطلع بدور على قدر كبير من الأهمية في دعم مبادئ المعرفة الصحيحة، واتخاذ القرار على أسس جيدة، والشفافية. وكوستاريكا هي الدولة الديموقراطية الأكثر استقراراً في المنطقة، حيث ترتفع قيم السلام وحماية الطبيعة والتعليم فوق كل شيء. إلا أننا في الوقت الذي نبتهج فيه بنجاحاتنا أصبحنا ندرك أن مستقبلنا مرتبط بمستقبل جيراننا ونجاحهم في مواجهة تحدياتهم، سواء كانت تلك التحديات الصراعات العسكرية، كما كانت الحال منذ عشرين عاماً، أو الجوع والمرض كما هي الحال اليوم.ولهذا فقد سررت كثيراً حين قرر «بنك التنمية بين الأميركيتين» ومركز «اتفاق كوبنهاغن» عقد مؤتمر مشترك في عاصمتنا سان خوسيه، بإلهام من قمة «اتفاق كوبنهاجن» التي عقدت في عام 2004. لقد شهدت تلك القمة السابقة اجتماع هيئة من كبار المفكرين الاقتصاديين على مستوى العالم من أجل الرد على التحدي الماثل في هذا التساؤل: إذا ما كان إنفاق خمسين مليار دولار إضافية من شأنه أن يحسن من أحوال العالم، فكيف لنا أن نخصص الأموال على النحو الذي يحقق لنا أقصى قدر ممكن من الخير؟ لقد أدرك هؤلاء المحللون والخبراء أن أغلب، إن لم يكن كل، الحلول الممكنة لأضخم التحديات التي يواجهها العالم تعتمد على البيئة المحلية أو الإقليمية. ومن هنا فإن هذا الحدث الذي ستستضيفه مدينة سان خوسيه سوف يضع في محل المنظور العالمي القديم منظوراً إقليمياً جديداً، حيث ستركز هيئة جديدة من الخبراء على أضخم التحديات التي تواجه أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي.تنقسم هذه التحديات إلى عشر فئات، وهي القائمة المعتادة التي تتألف من القضايا الرئيسية التي يواجهها هذا القسم من العالم: الديموقراطية، والتعليم، وتشغيل العمالة، وحماية البيئة، والمشاكل المالية، والصحة، والبنية الأساسية، والفقر، والتفاوت الاجتماعي، والإدارة العامة، والجريمة.من المنتظر أن يواجه الخبراء قيوداً واضحة. ومن أهم هذه القيود ندرة مواردنا. فنحن لا نستطيع أن نلبي طلبات الناس جميعاً، أو أن نحل مشاكلنا كلها دفعة واحدة. ويتعين علينا أن نختار بين العديد من الأفكار الطيبة، بصرف النظر عن صعوبة تنفيذها. ولسوف تضطلع الهيئة بوضع قائمة أولويات بالحلول القادرة على العمل كمجموعة من الخطوط الهادية التي يستطيع صناع القرار في المنطقة أن يسترشدوا بها، والتي سوف تساعدنا في تحقيق طموحاتنا الواقعية.من المنتظر أن تعمل «مستشارية سان خوسيه»، كما أطلق على هذا المؤتمر، على ابتكار الحلول العملية التي يستطيع قادة المنطقة تنفيذها، ومساعدتنا في التعرف على المبادرات الخاصة بترشيد الإنفاق والترويج له. إلا أن المؤتمر سوف يخدم في المقام الأول من الأهمية كأداة للتأكيد على أهمية العمل الجماعي. إن العمل المشترك الموجه من خلال إحساس حقيقي بالوحدة الإقليمية يشكل تحدياً يستحق الاهتمام في حد ذاته.كنا نسمع قديماً أن «السياج الجيد بين الجار والجار يجعل العلاقة بينهما طيبة». ولا شك أن هذه الكلمات تحمل في طياتها قدراً عظيماً من الحكمة، إلا أن الوقت قد حان لإعادة تقييم المقصود من تعبير «السياج الجيد». لقد بات من الضروري في عالم اليوم أن يكون ذلك السياج منخفضاً إلى الحد الكافي للسماح لكل منا بأن يصافح جاره وأن يتفهم المشاكل التي يواجهها كما يهتم بتفهم مشاكله الشخصية. كما ينبغي لهذا السياج أن يُبنى على أساس إدراكنا الواضح بأن الأسوار والجدران، بل وحتى المحيطات والقارات، لم تعد قادرة على عزلنا عن المشاكل التي يعيشها الآخرون.هذه هي الروح التي ستسود المؤتمر القادم. وإنني أرجو أن تنتشر هذه الروح إلى ما هو أبعد من مؤتمر سان خوسيه، وأن تشاركنا الأقاليم الأخرى في إدراكنا أنه رغم الأهمية التي تشكلها الحدود كأداة لرسم نطاق أراضينا الوطنية، إلا أن التحلي بالشجاعة الكافية للتواصل في ما بيننا عبر هذه الحدود يساعدنا في تحديد هويتنا وشخصيتنا وفي النهاية تحديد مدى نجاحنا أو فشلنا جميعاً في المستقبل.*رئيس دولة كوستاريكا وحائز على جائزة نوبل للسلام عن عام 1987.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»