Ad

ما لاغرو فيه أن أوروبا، إذ أنشأت اتحادها، إنما اخترعت جديداً غير مسبوق، ليس فقط قياساً إلى تاريخها بل قياسا إلى التاريخ البشري، فإذا ما عُدّ الاتحاد الأوروبي فضاء إمبراطورياً، فهذه أول إمبراطورية لا تقوم على الغلبة والإخضاع، يجري الانضواء فيها طوعاً، بل هو مرغوب يُطلب ويُسعى إليه سعياً.

«أوروبا يُعاد توحيدها»، أو أن خطوة حاسمة قد أنجزت في ذلك الاتجاه، يكتب المعلقون الأوروبيون أو سوادهم الأعظم، في معرض الترحيب باتساع «مجال شنغن»، بدءاً من منتصف الليل والثانية الأولى من يوم الواحد والعشرين من ديسمبر الجاري، ليضم تسعة بلدان جديدة، هي لتوانيا ولاتفيا وإستونيا وبولندا وسلوفينيا وسلوفاكيا وجمهورية تشيكيا إضافة إلى جزيرة مالطا، فلم تتخلف سوى قبرص، بإرادة منها على ما يبدو، لأنها لا تريد لخط الانقسام بينها وبين الشطر التركي من الجزيرة، أن يتحول إلى حدود خارجية، وكل من رومانيا وبلغاريا.

هكذا، وبمجرد إجراء تقني، اتُّخذ تنفيذاً لقرار انضمام تلك البلدان إلى الاتحاد الأوروبي في سنة 2004، نشأ فضاء مفتوح لحرية حركة البضائع والأشخاص، يمتد من مدينة ريغا شرقاً إلى مدينة برست، في أقصى الغرب الفرنسي، كما ينوّه الإعلام الأوروبي بنبرة إشادة لا تخلو من غنائية.

أمر غير مسبوق في تاريخ القارة القديمة، ولكن أوروبيين كثراً، يفضلون الحديث عن «إعادة توحيد»، كأنهم يتهيّبون إنجازهم ذاك، فينسبونه إلى سابقة تاريخية مُتَوهّمة.

إذ لم يسبق للقارة، حتى في ماضيها الإمبراطوري البعيد، أن استوت كياناً موحداً كما هو شأنها الآن. الإسكندر المقدوني توجه بجيوشه شرقاً، حتى بلغ أعماق آسيا، ولم يأبه لغرب لم يكن يعني له شيئاً، فحضارة الإغريق كانت حضارة شرقية، ولم تصبح «غربية» إلا في زمن متأخر، عندما «استولى» عليها الغرب وأدمجها مكوّناً من مكونات هويته في لحظة من لحظات مساره الطويل الشاق لبناء ذاته الحديثة. أما الإمبراطورية الرومانية، فكان هاجسها في المقام الأول النفوذ على حوض البحر المتوسط، امتدت إلى أفريكا «إفريقيا، تونس الحاليّة»، قبل أن تسيطر على جوارها القارّي المباشر، الذي كان آنذاك مجالاً طرفياً، بقيت أجزاؤه الشمالية، بلاد «البرابرة» الجرمان، آبقة على سلطان روما، حتى أجهز عليها «البرابرة» أولئك وقوّضوها.

حتى المسيحية لم تفلح في توحيد القارة، إذ سرعان ما انشطرت بين شرق أرثوذكسي وغرب كاثوليكي، استَقاما عالمين متباينين وحضارتين، تنابذا وتناصبا العداء، حتى أن أولى الحروب الصليبية، خيضت ضد القسطنطينية كما خيضت ضد العالم الإسلامي. ثم جاءت حركات الإصلاح الديني التي قسمت أوروبا الغربية ذاتها بين جنوب كاثوليكي وشمال جرماني في الأغلب، بروتستانتي، وكان لها نصيبها من دامي الصدامات.

ومع ذلك، وكما سبقت الإشارة، يفضل أوروبيون كثر الحديث عن «إعادة التوحيد»، ربما لأن الماضي يبقى مصدر الشرعية الأثير، حتى إذا ما انتفى واقعاً وتاريخاً، صير إلى اختلاقه وانتحاله، ضرورةً إيديولوجية لا مناص منها، ليس من هو في حلّ منها، حتى من بلغ شأو الأوروبيين حداثةً وامتلاكاً لناصية اجتراح المستقبل.

إذ ما لاغرو فيه أن أوروبا، إذ أنشأت اتحادها، إنما اخترعت جديداً غير مسبوق، ليس فقط قياساً إلى تاريخها بل قياسا إلى التاريخ البشري، فإذا ما عُدّ الاتحاد الأوروبي فضاء إمبراطورياً، فهذه أول إمبراطورية لا تقوم على الغلبة والإخضاع، يجري الانضواء فيها طوعاً، بل هو مرغوب يُطلب ويُسعى إليه سعياً. صحيح أن العلاقات بين الدول والشعوب لا تخلو من غلبة، كقاعدة عامة لا يشذّ عنها حتى الاتحاد الأوروبي، حيث لا يمكن لوزن مالطا، على سبيل المثال، أن يكون موازياً لوزن ألمانيا، ولا لتأثيرهما أن يكون متماثلاً، بالرغم من وجود مساواة شكلية لدى التصويت على القرارات في الهيئات الاتحادية وما شاكل ذلك من مناسبات، ولكن المقصود هو خلوها من الغلبة التي تُفرض عنفاً وقسراً أو تنال بقوة السلاح، كما هي حال الإمبراطوريات عادة، فينسج الاتحاد الأوروبي في هذا الصدد على منوال العلاقات بين مواطني ديموقراطياته، حيث تُحسم الأمور سلماً بواسطة التداول، وحيث موازين القوة وقائع سياسية يُعبّر عنها، إقراراً أو تجاوزاً، بالوسائل السياسية حصراً.

وهكذا، تكون القارة التي ابتدعت أنموذج الدولة-الأمة، هي نفسها القارة التي ابتدعت الوسيلة الأنجع، صيغة خلاّقة لتخطي ذلك الأنموذج مفتوحة على المستقبل، لا تعلن بطلان الدولة-الأمة بالنكوص إلى الأنصبة الإمبراطورية القسرية التقليدية، على ما يبدو أنه المنحى الذي تتوخاه الولايات المتحدة، نكراناً لمبدأ سيادة الدول، الذي أضحى في نظرها مشروطاً غير مطلق وغير ثابت وقابلاً للإلغاء، ولا بالتردي بالكيانات القائمة، وتلك الهشة البنيان منها على وجه التخصيص، إلى مكوّناتها الأولية، ما قبل السياسية، أعراقاً وإثنياتٍ وطوائف وعشائر.

مزية الأنموذج الاتحادي الأوروبي أنه يتجاوز الدولة-الأمة، التي يبدو أنها آيلة إلى إذواء، من دون أن يضحي بالأوطان، ضماً قسرياً أو تفكيكاً، بل من خلال إدراجها في أفق تحرري اندماجي مستجدّ، وهو لذلك أنموذج يجب أن يكون موضوع تأمّل وتدبّر، في سائر مناطق العالم، لا سيما منطقتنا.

* كاتب تونسي