الفعل لشيبوب
صناعة الإعلام تقتضي وجود جيش كبير من العاملين في المطبخ؛ فريق كامل من المحررين والمعدين والمخبرين والعمال والفنيين؛ كلهم يقدمون عصارة خبرتهم وجهدهم، طائعين وربما فرحين؛ لتصل إلى الجمهور عبر صورة مذيع، أو صوت مذيعة، أو في نص لا يكتب أسفله غير اسم فرد واحد عادة... «عنتر» الإعلام؛ الذي صنع مجده بأفعال العشرات من «شيبوب».
تأتي المذيعة المشهورة، كعادتها، متأخرة عن موعدها المفترض. مذيعة مشهورة؛ ذات كاريزما... طلة... جاذبية أو حضور أو أي من الأوصاف التي تفسر سر الراتب الكبير الذي تحصل عليه، أو تهافت المعلنين على برنامجها، وخضوع القائمين على محطتها لطلباتها كلها، وتسامحهم مع هفواتها جميعها صاغرين.تبدأ المذيعة عملها فوراً، بعد أن تضبط ملابسها وزينتها، وقبل أن تقرأ كلمة واحدة عما ستقدمه هذه الليلة أو هذا الصباح، معتمدة على سماعة صغيرة في أذنها؛ تسمى Earpiece؛ جهاز صغير لا يُرى بسهولة، ميكرفون يربطها بالمعد أو منتج البرنامج، ويربطها بالنبوغ والتفوق، ويحول بينها وبين السقوط وقلة الحيلة وضياع المعاني والكلام.من خلال هذا الميكرفون الصغير، ومهما كانت الخلفية الثقافية لنجمتنا أو نجمنا، ومهما كان استعدادهما لموضوع النقاش، أو معرفتهما بخلفيات الضيوف، والأسئلة المناسبة لتوجيهها لأي منهم، والمغزى العام للفقرة، سيتأكد المشاهدون أن نجمتهم أو نجمهم المحبوبين في غاية اليقظة ومنتهى الإلمام.سيكون المعد واقفاً طوال الوقت على أطراف أصابعه؛ متابعاً كل ما يحدث بإحاطة وعمق وانتباه، ومزوداً نجمتنا على الشاشة بالأسئلة، وتعبيرات الوجه، والقرارات الواجب اتخاذها. وفي الوقت نفسه، سيكون الجمهور مستمتعاً مبهوراً بعمق المذيعة النجمة وثقافتها، وستأتي صحف الصباح بصورها الملونة، وأسفلها تعليقات المديح والإشادة، وسنتداول جميعاً سيرتها في المنتديات والمقاهي والبيوت؛ مشيدين بألمعيتها، ومعددين مناقبها.قديماً قالت العرب: «الصيت لعنتر والفعل لشيبوب»، كما قالت: «الصيت للورد والفعل للعليق»؛ تعليقاً على حالة يبدو أنها تكررت في الزمان لتصبح مضرباً للأمثال ومنبعاً للحكمة. وحديثاً ترجم الكوميدي الهزلي إسماعيل ياسين الحكمة ذاتها في أحد منولوجاته: «ناس بتتعب ولا تكسبش، وناس بتكسب ولا تتعبش». ربما تكررت الواقعة كثيراً في كل مهنة وعبر الزمن؛ لكنها تجد أعلى تجلياتها في صناعة الإعلام.فصناعة الإعلام تقتضي وجود جيش كبير من العاملين في المطبخ؛ فريق كامل من المحررين والمعدين والمخبرين والعمال والفنيين؛ كلهم يقدمون عصارة خبرتهم وجهدهم، طائعين وربما فرحين؛ لتصل إلى الجمهور عبر صورة مذيع، أو صوت مذيعة، أو في نص لا يكتب أسفله غير اسم فرد واحد عادة... «عنتر» الإعلام؛ الذي صنع مجده بأفعال العشرات من «شيبوب». وفي الصحافة المكتوبة يمثل رئيس التحرير جريدته، ويدير دبلوماسيتها العامة، يكتشف الفرص، ويستشعر المخاطر، وربما يكتب مقالاً، فيما الفعل لآخرين... مدير أو سكرتير تحرير، وربما محرر لا يعلم أحد عنه شيئاً، وتتجاوزه العيون حين تراه.وتعرف صحافتنا العربية ظاهرة غريبة لا تتكرر في صناعة الصحف في الدول المتقدمة؛ فثمة ما يقال له «الديسك»؛ أي قسم الصياغة والمراجعة العامة في الصحيفة. إذ تأتي المواد عاطلة عن المعاني، مهشمة اللغة، منزوعة السياق، فتتحول، على أيدي «كهنة» الديسك المغمورين، نصوصاً بديعة، بعناوين براقة واتساق بديع.وهذا المُحاور الذي يرهق ضيوفه، ويقودهم إلى حيث يتصبب العرق من جباههم وتنكشف خطاياهم. من أين وجد الوقت اللازم لإنجاز هذا الإعداد المضني، وكيف تنوعت معارفه، لتغطي بدرجة العمق ذاتها المجالات كلها التي يتصدى للحديث فيها مع ضيوفه؟ انظر إلى أسماء فريق الإعداد؛ لتعرف أي شيبوب كان وراءه.وكما تفعل وكالات الأنباء؛ إذ تزود الصحيفة بمواد جاهزة للنشر أو تكاد، من دون أن يعرف الجمهور اسم الصحافي المُجيد الذي صنع قصة واحدة ونشرتها مئات الصحف داخل البلد وخارجه، يفعل المدقق اللغوي، الذي لولا وجوده في هذه الصناعة لُفضحت أسماء كبيرة ولامعة لكتاب مرموقين، تكتظ نصوصهم بأخطاء النحو فضلاً عن مشكلات الصياغة وسقطات الإملاء.واليوم جاءت الإنترنت، كأفضل ما يكون «شيبوب» العصر في مجال الإعلام. فكم من «عنتر» في المشهد الإعلامي العربي اليوم يعتمد على الشبكة العنكبوتية، فيعد البرامج، ويسود المساحات «بكبستي زر» على جهاز كمبيوتر.تزدهر صناعة الإعلام اليوم، وتطرح كل يوم نجوماً جدداً، وتكرس نجومية كثيرين، وتكسب باطراد جمهوراً ومعلنين، وتحصل على الرضا، وتتقبل المديح، وتزداد نفوذاً، لكنها لا تعرف قيمتين أساسيتين: العدل والرحمة.لن نكون خياليين، فنطالب الصناعة، أو نجومها المرموقين بتكريم الطهاة الحقيقيين لهذه الوجبة اللذيذة، أو تدوين أسمائهم في مطالع «التترات» وفوق «الترويسات»؛ فقد يكون هذا مما يقال عنه خيال. فقط يمكن أن نطلب أن يشكر اليوم كل عنتر شيبوبه، وينظر إليه باحترام وامتنان، وهذا أضعف الإيمان.* كاتب مصري