Ad

يعود الكاتب علي بلوط الى الوراء ليتناول الحرب العراقية-الإيرانية وما شهدته في خلفياتها، فضلا عن التوقعات التي كانت منتظرة منها. ثم يدخل في تبيان خلفية العلاقة الأميركية-العراقية.

الحرب مع إيران

«بسهولة، كان باستطاعة صدام أن يتلافى حربه المدمرة مع إيران، تلك الحرب التي كلفته مليارات الدولارات. في نهاية 1979، عندما بدأت الحرب غير المعلنة في ذلك الوقت مع إيران، كان الوضع المالي للعراق متينا. الخزينة تملك 83 مليار دولار احتياطيا والدينار العراقي كان قوياً ويساوي 3.10 دولارات.

هذا الاحتياطي المالي كان قد بني وتكدس بعد الحرب العربية-الإسرائيلية عام 1973 التي رفعت أسعار النفط الى مستوى غير متوقع، خاصة بعد أن أعلن العاهل السعودي فيصل بن عبد العزيز استخدام سلاح النفط.

آية الله روح الله الخميني كان بمنزلة الشيطان الأسود بالنسبة للغرب. وفي وقت ما كان الزعيم الإيراني تحت سيطرة صدام قبل قيامه بالثورة. الخميني هرب من البوليس السري للشاه في عام 1964 ولجأ الى النجف حتى نوفمبر 1978. حتى وهو في العراق لم يسلَم الخميني من نفوذ طهران. الشاه طلب من صدام أن يتخلص من الخميني بطريقة أو بأخرى، واختار صدام طريقة طرده من العراق على الطريقة الأخرى التي تعني التصفية الجسدية. ولا أحد يدري حتى أقرب المقربين من صدام لماذا فضل هذه الطريقة على الأخرى. وتوجه الخميني الى فرنسا حيث نزل في ضواحي باريس إلى أن عاد الى إيران بعد قيام الثورة عام 1979.

لم ينتظر الخميني طويلاً قبل أن يشن حملة إعلامية شعواء ضد صدام وصلت الى درجة دعوة المراجع الشيعية في العراق الى الثورة ضد النظام.

سنحت لي فرصة قراءة سلسلة من وثائق وزارة الخارجية العراقية، والتي تشير معظمها الى أن الجمهورية الاسلامية لم تستعِد عسكرياً للهجوم على العراق او أي بلد عربي آخر، كل ما ارادته طهران في ذلك الوقت شن حرب اعلامية لزعزعة النظام، ومن ثم تغييره من الداخل، معتمدة على العناصر الشيعية خاصة التنظيم الصغير الذي كان موجوداً آنذاك لـ«حزب الدعوة».

كان صدام، كما قيادة حزب البعث يعتبر ان العراق يواجه مشكلتين: واحدة كردية، وهي لا تصل الى اكثر من حدود الازعاج، والثانية شيعية بإمكانها ان تصيب في مقتل. لذلك فإن الحرب الاعلامية الخمينية ضد صدام وضعت النظام العراقي كله في حالة هياج مشوب بالقلق البالغ، خصوصا بعد ان قام «حزب الدعوة» بعدة عمليات داخل العراق كان أهمها محاولة اغتيال طارق عزيز في جامعة المستنصرية. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن طهران لم تكن تعني وتخطط لحرب عسكرية ضد العراق.

تشير تقارير وزارة الخارجية العراقية التي اطلعت عليها ان طهران فوجئت بحرب الحدود مع بغداد التي بدأت في اواخر عام 1979، أي بعد عدة أشهر من وصول الخميني منتصراً الى طهران.

كذلك تشير هذه التقارير الى ان طهران حاولت الوصول الى تفاهم مع صدام لايقاف حرب الحدود. الخميني طلب من الرئيس السوري حافظ الأسد أن يتدخل لاقناع صدام بأن ايران لا تضمر نوايا عسكرية ضد العراق. محاولات الأسد باءت بالفشل وأعطت نتائج عكسية لانها جاءت من قبل الرجل الذي لا يثق به صدام اطلاقاً. واعتبر صدام ان تدخل الأسد لايقاف حرب الحدود هو نوع من التخدير ليس إلاّ. على كل حال صدام كان أخذ قراره في ذلك الحين للانتقال من حرب الحدود الى حرب شاملة.

سمعت الكثير من الكلام عن هذا الموضوع من كثير من القياديين العراقيين وعلى الأخص طارق عزيز والدكتور فاضل البراك الذي كان مديراً لجهاز المخابرات في وقته. الاثنان اتفقا على القول ان العراق لم يكن يتوقع على الاطلاق ان تخوض ايران حرباً شاملة ضده، لسبب جوهري وهو ان ايران لم تكن مستعدة عسكرياً في ذلك الوقت. قال لي البراك: كان بإمكاننا ان نتلافى الحرب، وأن نصل الى اتفاق سلمي مع ايران، لكن القيادة كانت قد اتخذت قرار الحرب. أما طارق عزيز، فقد قال لي: لقد فاجأنا نحن الخميني عندما بدأنا الحرب وقد أعطتنا هذه المفاجأة فرصة تحقيق انتصارات كبيرة في الأشهر الثلاثة الاولى للقتال.

يستدل من كلام المسؤولين اللذين ينتميان الى الحلقة الضيقة لصنع القرار وجود اختلاف في الرؤية. فبينما كان فاضل البراك غير راض عن الحرب مع ايران، وقد دفع في ما بعد ثمن رؤيته غالياً، كان طارق عزيز من المشجعين عليها.

والسبب المباشر الذي دفع صدام إلى خوض هذه الحرب المكلفة مالياً وبشرياً، والتي استمرت ثماني سنوات، هو خوفه من تزايد النفوذ الايراني على الشيعة في العراق.

برزان وفي واحد من لقاءاتنا العديدة في بغداد أعطاني بعض التفاصيل.

كان برزان قد طرد من منصبه مديرا للمخابرات لسبب يقال انه كان معارضاً لزواج ابنة صدام الكبرى رغد من حسين كامل المجيد مرافق ساجدة وابن عم الرئيس. وكانت الحرب بين آل المجيد اقرباء والد صدام وآل الحسن اقرباء والدة صدام حديث الهمس في صالونات القياديين الحزبيين في العراق. ويقال ايضاً ان فاضل البراك الذي كان مديراً للأمن العام أدى دوراً بارزاً الى جانب آل المجيد لهدف طرد برزان من المخابرات والحلول مكانه. وهذا ما حدث بالضبط.

لم يعد لبرزان الذي كان مالئ الدنيا وشاغل الناس، عندما كان مديراً للمخابرات، أي عمل. اكثر من ذلك فإن صدام أصدر تعليمات صارمة للحزبيين بمقاطعة برزان شخصياً واجتماعياً. وفي البداية أصدر أمره بنفي برزان الى تكريت حيث بقي هناك عدة أشهر عاد بعدها الى بغداد ليمارس هواية شرب القهوة مع الكونياك ابتداء من العاشرة من صباح كل يوم في زاوية مظلمة من زوايا الكافتيريا في فندق الرشيد. وفي هذه الزاوية كنت ألتقي بزران في كل مرة أزور فيها بغداد.

عند احتلال الجيش الايراني منطقة الفاو الغنية بالنفط، التقيت برزان في زاويته الخاصة. كان قلقاً جداً ولم يخف قلقه هذا. فالفاو -في رأيه- منطقة استراتيجية مهمة واستمرار احتلالها من الايرانيين قد يعني خسارة العراق الحرب.

قال لي برزان انه قد عاد تواً من زيارته الرئيس وأنه وضع أمامه كل مخاوفه باختصار وبمنتهى الصراحة. فأجابه صدام بألا يقلق على النتائج العسكرية في ساحة القتال، وذكر له بالحرف الواحد: ان النتيجة محسوبة ومدروسة جيداً وهي ستصب في النهاية في مصلحتنا. ان المجتمعين العالمي والاقليمي الى جانبنا ولن يسمح بأي انتصار ايراني. اذا كان لا بد من القلق فإنه يأتي بعد انتهاء الحرب وليس خلال القتال.

بدأت أنظر تحت الطاولة كمن يفتش عن شيء، ميكروفون مثلاً. مدير المخابرات السابق بدأ يضحك: لا تخف. هذه الطاولة نظيفة. كنت أختار شخصياً أين أضع آلات التسجيل الصغيرة. أعرف امكنتها في هذا الفندق، في الغرف، في المطاعم، في التواليت في أي مكان.

شاركته الضحك وقلت بين المزاح والجد: لربما أبو علي (فاضل البراك) قد «عملها» خصوصا أنك تجلس إلى نفس الطاولة تقريباً كل يوم. امتعض برزان وظهرت على وجهه علامات الغضب لأنه -في اعتقادي- سمع اسم غريمه، وقال: لا تخف. صحيح أنني تركت المخابرات ولكني على اطلاع بكل ما يجري هناك مهما كان صغيراً».

العلاقات الأميركية - العراقية

«الطبيعة وضعت للحياة قواعد عديدة، منها ما هو ثابت لا يمكن تغييره، ومنها ما هو متحرك يسير في اتجاه تطور المجتمع الثقافي والسياسي والاقتصادي. من القواعد الثابتة مثلاً: إن ما بني على الحقد ينتهي بالحقد. وأيضاً أن الدم يستسقي الدم. هذا يعني أن ما شيد بالدم يهدم بمزيد من الدم. ولعل هاتين القاعدتين، وربما غيرهما، تنطبقان على النظام الذي أسسه صدام حسين منذ بدايته الى نهايته.

فالعلاقات الأميركية-العراقية كانت معقدة منذ بدايتها في عام 1980. من جانب صدام، إن هذه العلاقات قامت على حقد دفين على كل ما يمثل الحياة الأميركية وطرقها في العيش. في المقابل، فإن الجانب الأميركي واجه العراق بكثير من الحذر والتآمر مهما كانت ألوان ادارته، جمهورية أم ديموقراطية.

استراتيجية صدام في التعامل مع الولايات المتحدة التي وضع خطوطها العريضة في بداية السبعينيات أخذت في اعتبارها حتمية الصراع، المباشر أو غير المباشر، وبالتالي حتمية المواجهة إذا لم تغير واشنطن سياسة الدعم لإسرائيل مالياً وسياسياً وعسكرياً. هذا التغيير كان مستحيل الحدوث من وجهة نظر صدام لا اليوم ولا غداً ولا في المستقبل المنظور. لذلك وضع استراتيجية «الاشتباك عن بعد» مع الأميركيين حيث مارس خلال فترة السبعينيات أسلوب جس النبض، أو ما يسمى في الغرب سياسة «اختبار حرارة المياه».

في الوقت نفسه كان يبني علاقات جيدة مع الاتحاد السوفييتي لاستخدامها في عملية اللعب على الحبلين، مع معرفته التامة بأن السوفييت يكرهونه أكثر مما يفعل الأميركيون، وذلك نتيجة لوجود بحيرة من الدماء تفصله عن الشيوعيين الذين أيدوا عبد الكريم قاسم في مراحل حكمه الأخيرة عندما قام الشيوعيون العراقيون بمذابح ضد البعثيين لعل أهمها مذبحة الموصل حيث قام عبد الوهاب الشواف، وهو ضابط بعثي-قومي، بمحاولة انقلاب في الموصل في بداية الستينيات.

وإذا كان «الكرملين» يفرق بين سياسة الدولة وسياسة الحزب، فإن صدام قد ينسى، أو يتناسى، أي شيء ما عدا الأخذ بالثأر، من القريب أو البعيد. العربي أو الأجنبي كلهم يتساوون عندما يتعلق الأمر بأخذ الثأر. صدام بإمكانه أن يضع الإصبع على جرحه من دون أن يتأوه، لكن طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة عملية لم تكن موجودة في قاموسه السياسي أو الاجتماعي. هذه القناعة رافقته منذ نشأته في أزقة وحواري تكريت حتى قصور الحكم، وصولا الى حبل المشنقة.

كان حلم صدام الأزلي أن يكون صلاح الدين الآخر. فصلاح الدين الأول جاء من تكريت، فلماذا لا تنتج تكريت صلاح الدين الثاني؟!

الولايات المتحدة بتركيبتها الحالية تقف حائلاً دون تحقيق هذا الحلم. إن صدام كان يدرك أن أول خطوة نحو تحقيق حلمه هي استعادة حقوق الشعب الفلسطيني. ومن دون العمل الجدي في هذا الميدان لن يكون نجماً ساطعاً في السماء العربية، بل يبقى واحداً من النجوم الكثيرة التي تنير سماء العراق في ليلة صيف حارة.

من هذا المنطلق، بنى صدام خطه الاستراتيجي للتعامل مع الولايات المتحدة منذ البداية. ومن هذا المفهوم تولدت لديه القناعة التامة بأن الاصطدام مع الأميركيين واقع لا محالة خلال فترة مسيرته نحو تحقيق حلمه الكبير هذا».

ومن الخطأ القول إن الولايات المتحدة لم تتفهم صدام وطموحاته وأحلامه، ولم تقرأ أفكاره بوضوح منذ بداية ظهوره على المسرح السياسي كالرجل القوي في بغداد في بداية السبعينيات.

فمنذ أن تولى صدام السلطة كالرجل الثاني بعد أحمد حسن البكر في عام 1968، تشكلت في واشنطن عدة لجان كانت مهمتها دراسة شخصية وأفكار وطموح هذا الشاب القادم من تكريت.

وفي التحليل النهائي لدراساتها، اتفقت هذه اللجان الأميركية، على أمرين: أولا أن صدام يشكل عدواً محتملاً للولايات المتحدة الأميركية ومصالحها الكبرى في الشرق الأوسط، والآخر أوصت هذه اللجان بضرورة انتهاج سياسة الاستيعاب لشخصيته، في محاولة لتحويله من عدو محتمل الى صديق حقيقي يخدم مصالحها، مع ضرورة وضعه بشكل دائم تحت المراقبة حتى إذا سنحت الفرصة للخلاص منه بصمت ومن دون ضجيج يؤذي السياسة الأميركية أو يضعها في متاعب هي في غنى عنها. «على الولايات المتحدة أن تغتنم هذه الفرصة وبأسرع وقت ممكن»، قال لي مواري غارت، أحد رؤساء تحرير مجلة «التايم» الأميركية بعد مقابلته صدام في عام 1982.

إذاً الطرفان كانا يعرفان، وبعمق، أحدهما الآخر. الخطأ الذي ارتكبه صدام في هذا المجال هو قبوله أن يمارس لعبة السياسة طوال 20 عاماً ندّا موازيا للولايات المتحدة معتقداً أنه سينتصر في النهاية، آملاً أن يقول لواشنطن: «كش ملك».

إنه حلم مستحيل آخر من أحلام صدام... جلس إلى طاولة اللعب مع دولة كبرى معروفة بامتلاكها أقوى الأدمغة والمؤسسات المنظمة والمنتظمة، والخبرة الواسعة في المجال الدولي، ناهيك عن القدرة العسكرية والمالية. تمّلكه وهم خطير وخطر بأنه سوف يكون الرابح في النهاية؟ مثل صدام في هذه اللعبة كمثل طفل بنى قصوراً وحصونا من رمال متحدياً البحر وأمواجه المدمرة. أمام هذه الصورة فإن النتيجة معروفة لكل ذي عقل يعي الحقيقة ويؤمن بالواقعية. لقد انتظرت واشنطن أكثر من اللازم، ومدت الحبل طويلاً لصدام كي يشنق نفسه به ثم قالت له كلمتها الأخيرة «كش... صدام».

وهكذا، فالعلاقة بنيت على حقد صدام وعلى خبث وتآمر واشنطن. وكان من الطبيعي أن مثل هذه العلاقة لن تدوم طويلاً. كانت أشبه بزواج المصلحة، وعندما تضاربت المصالح انتهى الزواج مخلفاً وراءه الكثير من اليتامى والمآسي الإنسانية التي تعجز الكلمات عن وصف قبحها وقذارتها.

أقول ذلك عن معرفة جاءت نتيجة اشتراكي القليل في خلفية هذه الأحداث. لقد حضرت بعض لحظات بداية هذا «الزواج»، وعشت أيام ما بعد الطلاق وما خلّفه من حروب. ففي الشهور الأولى لبدء الحرب العراقية-الإيرانية وفي واحد من اللقاءات المتعددة، قال العاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز لصدام بلغة التساؤل «ألا تعتقد أنه قد حان الوقت لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن خصوصا انها لم تشهد تحسناً طوال فترة حكمك، كما أنها لم تشهد تدهوراً وهذا هو المهم؟ إن اعادة العلاقات يمكن أن تختصر الحرب. نحن على استعداد للقيام بدورنا عندما تريد ذلك».

بعد أيام عدة من هذا اللقاء، وضع الملك الأردني حسين الموضوع على طاولة صدام ولكن بصيغة مختلفة. صدام أعطى جواباً واحداً للملكين العربيين «الوقت لم يحن بعد لاعادة العلاقات. إن الحرب مع ايران ستحسم قريباً لمصلحتنا وبالتالي فإن الخميني سينتهي مع نظامه. إذا أعدنا العلاقات مع واشنطن الآن فإن التاريخ سيسجل خطأ إننا ربحنا الحرب لأن الأميركيين ساعدونا. أنا أفضل أن أربح الحرب من دون مساعدة أميركا، وأؤكد لكم أن النصر أصبح بين أيدينا»