الربعي ممسكاً بالكتاب!
لماذا علينا أن نتذكر الموت؟ ربما لأن تجربة الحياة قصيرة جداً تُعاش مرة واحدة، وربما لأن اللحظة الإنسانية تولد عابرة، في نهر تحولٍ وعبور أبدي، لذا علينا أن نتذكر الموت، ونسعى ممسوسين بحمى حب الحياة، للإمساك بخيط اللحظة الواهن، والتلذذ بمذاقها الحلو والمر، ورمي ما مضى، وما سيأتي خلف ظهورنا؟ لماذا علينا أن نتذكر الموت؟ ربما لأن متطلبات حياتنا بتفاصيل معيشتها اليومية الملحّة والصغيرة، والتافهة أحياناً، تأخذنا إلى دروب الغفلة، كما أن مغريات ومتع اللحظة الإنسانية، قادرة على تصوير المشهد بألوان خادعة؛ لذا علينا أن نتذكر الموت، ونعد لذاك العدة. حين يخطف الموت حبيباً أو صديقاً، ننتبه وشيء من جزع يسكن نظرات عيوننا الوجلة، فلماذا نتذكر الآخر لحظة موته؟ هل لأننا نعزي أنفسنا بأننا ما زلنا أحياء؟ أم لأن الميت يستخلص مكانه من لحم قلوبنا، فيبعث ذلك الخوف في أوصالنا؟ أو أننا نتذكر الآخر لحظة موته، لأن لا شيء يبقى من الإنسان بعد رحيله إلا ذكراه. سأبقى أتذكر الصديق الدكتور أحمد الربعي في أكثر من موقف، فكثيرة المواقف التي طوّقني بها الربعي بمساعدته ومحبته وصدقه ورأيه السديد، لكنني سأبقى متذكراً لقاءنا الأخير في منزل الأديب إسماعيل الفهد، يوم سهرنا برفقة مجموعة من الأصدقاء، من بينهم الشاعر قاسم حداد، والأديب أمين صالح، في تلك الأمسية ظل الربعي ممسكاً بأحد دواوين الشاعر محمود درويش، مردداً: «كم أعانني هذا الكتاب في مرضي». وموضحاً: «تداويت بالطب والشعر». في تلك السهرة، قرأ علينا الربعي بعض المقاطع من ديوان درويش، متوقفاً عند كل مفردة وجملة، مظهراً ما للشعر من قوة سحرية تساعد الإنسان في لحظات ضعفه ومرضه على أن يمسك بحبل الأمل، ويغادر لحظته المؤلمة الموجعة إلى لحظة أكثر رحابة وسعادة. كنت أتأمل الربعي في حماسته وانفعاله في ما يقول، وكنت أتأمله بإعجابه بالشعر والفن، وكنت أتأمله بإيمانه اليقيني بعظمة الفن، وكنت أتأمله رجل الفلسفة والسياسة والفكر، وكيف أنه يذوب في كلمة الشعر، رافعاً الكتاب ليكون قرب وجيب قلبه. كثيرون اشتغلوا بالفكر والفلسفة، وكثيرون اشتغلوا بالسياسة، لكنني أعتقد جازماً أن ما ميّز الربعي عن الآخرين، وجعله لافتاً في شخصه وأفكاره، هو عشقه للفن: شعراً ورواية ومسرحاً وفيلماً، ومزاوجته في إطروحاته بين الفكر والفلسفة والسياسة والفن، مما يجعل لحديثه سحراً خاصاً. لقد رحل الصديق أحمد الربعي، بعد حياة أصرَّ هو على أن يخلق لها حضورها البهي. رحل تاركاً خلفه صوراً كثيرة باقية على طول الوطن وعرضه، لكن صورته الأخيرة، حاملاً الكتاب إلى قلبه، ستبقى حاضرة في ذهني، فوحدها تجسد المعنى الأهم في حياة أحمد، وربما في حياتنا.