إن على الفلسطينيين أن يدركوا بعد كل هذه المسيرة العسيرة الطويلة، وبعد كل هذه الحروب العبثية التي خاضتها تنظيمات «بنادق للإيجار» خارج إطار قضيتهم أن ليس كل ما يلمع ذهباً، وأن من مصلحتهم ومصلحة قضيتهم النأي بأنفسهم عن الألاعيب والاستقطابات اليومية، وتوفير دماء أبنائهم كي تكون لفلسطين فقط.المعادلة واضحة ولا ينكرها إلاّ أحول البصر والبصيرة، فيجب أن تُذبح غزة بهذه الوحشية حتى يتغير الموضوع، وحتى يغرق الوضع اللبناني في هذا المستجد، وحتى تصبح القمة العربية المتنازع على مكان وزمان انعقادها، قمة مزايدات بين «الممانعين - المقاومين» والمعتدلين الذين كانوا يريدونها قمة للعراق والدولة الفلسطينية المستقلة ولبنان، وليس قمة «تشبيح» من غير المستبعد أن يصر الذين يستضيفونها على أن يحضرها إلى جانب محمود أحمدي نجاد خالد مشعل وحسن نصر الله والجنرال ميشال عون!!
لم يتعلم الفلسطينيون من أخطائهم، وها هي «حماس» تسجل رقماً قياسياً في أن تصبح «بندقية للإيجار» وللبيع والشراء وأن تضع نفسها في عربة قطار وجهته غير فلسطينية، وأن تستدرج القتلة الإسرائيليين ليذبحوا غزة من الوريد إلى الوريد حتى يتغير موضوع القمة، وحتى «يتطوأس» خالد مشعل أكثر مما هو «متطوئس» وحتى يستطيع وضع نفسه من دون خجل ولا دجل إلى جانب حسن نصر الله صاحب الانتصار الإلهي ما غيره.
والأنكى والأدهى أن «حماس» لم تخجل من أن تقول إنها انتصرت على إسرائيل التي قتلت خلال أربعة أيام من أهل غزة الأبرياء أكثر من مئة طفل وامرأة وآخرين أبرياء أرادهم خالد مشعل أن يكونوا سلّماً لطموحاته التي لا حدود لها، والتي من أجلها لم يتردد في القيام بالانقلاب الذي قام به في يونيو الماضي والذي جاء وكأنه هدية هبطت على الإسرائيليين من السماء أعطت مصداقية لادعائهم بعدم وجود الشريك الفلسطيني الذي بإمكانهم مفاوضته.
هل يجب أن تُذبح غزة على هذا النحو وأن يسقط من أبنائها العشرات حتى يستطيع مضيفو القمة العربية تغيير جدول أعمالها واستبدال البند اللبناني المطروح الآن ببند المواجهة مع «العدو الصهيوني» وحتى يعزز خالد مشعل موقعه في «فسطاط الممانعة» ويعلن وهو يرفع إشارة النصر بيده اليمنى أنه أصبح بمستوى حسن نصر الله، وأنه يجب أن يُعامل بعد الآن على أنه العنوان الفلسطيني الشرعي والوحيد الذي لا عنوان غيره؟!
لا يجوز الصمت على كل هذا الذي يجري بحجة أنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» وبحجة أن المسؤولية، مسؤولية مذبحة غزة، يجب عدم تحميلها إلا للعدو الصهيوني، فهذه لعبة قديمة لعبتها أنظمة الانقلابات العسكرية ولعبها نظام صدام حسين، حيث كانت الأفواه تُكمم والألسنة تُمنع من الكلام لأن الأولوية هي للاشتباك مع أعداء الأمة، وليس للديموقراطية والحريات العامة... وكل هذا الكلام الفارغ!
لقد أصبحت حركة «حماس» بيدقاً صغيراً على رقعة شطرنج المنطقة، ولذلك فإنها لم تخجل من أن تصف ذبح غزة وتدميرها بأنه انتصار كانتصار حسن نصر الله، فهي في الأساس لا تنطلق في حسابات الربح والخسارة من منطلقات المصلحة الفلسطينية، بل من منطلقات الذين يريدون تغيير موضوع القمة العربية والذين ينفذون مشروعاً إقليمياً يسمونه للتعمية وذرّ الرماد في العيون «فسطاط الممانعة والمقاومة».
إن على الفلسطينيين أن يدركوا بعد كل هذه المسيرة العسيرة الطويلة، وبعد كل هذه الحروب العبثية التي خاضتها تنظيمات «بنادق للإيجار» خارج إطار قضيتهم أن ليس كل ما يلمع ذهباً، وأن من مصلحتهم ومصلحة قضيتهم أن ينأوا بأنفسهم عن الألاعيب والاستقطابات اليومية، وأن يوفروا دماء أبنائهم كي تكون لفلسطين فقط... لقد تجاوزت الأمور كل الحدود، ولذلك يجب أن يرفع الشعب الفلسطيني صوته، وأن يقف بشجاعة في وجوه الذين يتاجرون به وبقضيته، خدمة لمشاريع لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية... إنه تاريخ مؤلم ولا يجوز أن تتكرر أحداثه مرة أخرى، حيث تتعرض المخيمات للذبح من أجل أن يمرر الآخرون مشاريعهم التي ليس بعضها، بل كلها مشاريع تآمرية... واحسرتاه على غزة!
* كاتب وسياسي أردني