Ad

يمكن القول إن حرب إسرائيل على غزة هي «فلسفة» غوانتانامو، وقد اتسعت مدى، بحيث أضحت تُتوخى، ليس فقط على صعيد مجموعة من المعتقلين، في معسكر ناءٍ يقع، على نحو ما، خارج الجغرافيا وعلى تخوم العالم المُتمدن، ضرباً من فراغ، بل على شعب بأسره، «كيان» برمته، جهراً، وعلى مرأى ومسمع من المجموعة الدولية.

هناك تفاوت صارخ فاضح بين فداحة ما يجري في غزة وضمور أو انعدام صداه. آثار الاعتداءات الإسرائيلية والحصار المضروب على القطاع مطبق لا يرحم بادية للعيان، تنقلها شاشات التلفزيون وتبثها على الملأ الكوني مشاهد قاسية، وتوثقها الهيئات المختصة، من وكالة غوث اللاجئين إلى منظمات أخرى كثيرة، حقوقية وغير حكومية، إحصاءات مرعبة، ولكن الأمر لا يستثير أحدا، لا يقض مضاجع الدول ولا يحرك ضمير الرأي العام، تلك القوة التي اجترحتها الحداثة وأطلقتها، نصيراً لمن تخذله الدول ومنطقها، وهو ليس إنسانياً في كل الحالات، وحساباتها وكليّتها.

يجري ذلك في الشرق الأوسط، قلب العالم. قلبه الروحي والرمزي على الأقل، لمن يتخذ من الديانات السماوية الثلاث الكبرى مرجعاً، ولكنه يُقصَى من الوجدان، فيُجحد ويُنكر، يُشاح عنه، يُشاهد وكأنه لا يُرى ولا يُسمع، تنصرف الأنظار إلى سواه... إلى معاناة أهل التيبت على سبيل المثال، لأن الصين ليست إسرائيل، أو لأن المعاناة تلك يمكن لمنطق الترفيه أن يستوعبها أو أن يتماشى معها، فإنسان هذا العصر، أقله ذلك الغربي المترف، إنسان لاهٍ (homo ludicus)، ينفعل وقد يتعاطف وقد يدين، ولكن قيدَ تظاهرة عابرة، مُمَشهدة، تنحصر تفاصيلها في أيقونة يسيرة ترمز إليها، دانية في المتناول لأنها أدركت ذلك الرأي العام، أو بعضه الناشط، في عقر داره، شأن الشعلة الأولمبية، وعبورها المضطرب في عدد من عواصم العالم ومدنه الكبرى، التي استوت تجسيداً لقضية التيبت، وأضحى إطفاؤها فعل تحدّ واعتراض يضاهي البطولة.

فـ«الإنسان اللاهي»، إنسان الحداثة الفائقة أو ما بعد الحداثة أو عصر العولمة أو أي توصيف عدا ذلك شئنا، يكره ما يُؤلم أو ما يعكر الصفو، ليس بالسعي إلى إنهائه ولكن بالإشاحة عنه، يكره المآسي فلا يراها، خصوصاً ما كان منها مقيماً، وهو إلى ذلك يمقت ما يُلزم وما يتطلب من قبله تعبئة، فهو، وهو المعوْلم، كفّ عن أن يكون كونياً، فتلك موضة ولّت مع أفول عصر الأنوار، الذي شهدت العقود الماضية نقداً له داحِضاً مُبطِلاً، والذي قيل إنه خلّف الإيديولوجيات الشمولية كما خلّف ريبة حيال كل قيمة تدّعي الكونية. ثم إن الإنسان اللاهي مستهلك، للأمتعة كما للصور والانفعالات، وهو يسحب منطق الاستهلاك ذاك و«فلسفته» حتى على المآسي وطريقة تفاعله معها، فيقبل على بعضها ويسوم بعضها الآخر تجاهلاً أو صدّاً، لأنه قد لا يلبي حاجة أو قد يتطلب تكلفة، ليست مادية بالضرورة بل قد تكون نفسية أو عاطفية.

هل يفي ذلك، إن صح، في تعليل تلك اللامبالاة حيال الفلسطينيين وما يكابدون؟ الأرجح، لا، أو فقط كخلفية أو كإطار عام. إذ هناك عامل آخر، تضافر مع السابق وتواطأ، هو المتمثل في تحوّل مقاربة غوانتانامو إلى إيديولوجيا، أي إلى مسلك لا يتوقف عند قرار اتخذته إدارة أميركية بعينها، هي إدارة الرئيس جورج بوش، في حق مجموعة بعينها، أي مقاتلو تنظيم «القاعدة» ومن شايعوه وتعاطفوا معه، إجراءً استثنائياً يضعهم خارج القانون بالمطلق، وفق منطق يفضي، في مؤداه الأخير، إلى إخراجهم من الإنسانية، يُعتقلون خارج كل غطاء من قانون، محلياً كان أو تشريعات دولية، وابتُدع، في تعيينهم مصطلح «الأعداء المقاتلون» لنفي صفة الأسرى عنهم، لأن لتلك الصفة تحديداً وتعريفاً معلومة في القانون الدولي.

كانت إسرائيل، قد سارعت، عند بدء هجومها الأخير على قطاع غزة، والذي لا يزال متمادياً منذ أمد حصاراً وعدواناً، وفي معرض تبريره، قد عيّنت القطاع ذاك على أنه «كيان معاد». عبارة «كيان» تفيد هنا هيئة غير معرفة، مبهمة، غُفلا، وأما «العداء» فيفيد، على قاعدة ذلك الإبهام، مواجهة قصوى، أو قصاصاً لا يردعه رادع. بين مصطلح «المقاتلين الأعداء» في غوانتانامو ونظيره «الكيان المعادي» وشيجة بديهية هي نزع كل صفة قانونية عن الطرف المقابل، والتحلل من كل رادع من قيم أو من أعراف في التعاطي معه، أي نزع كل صفة إنسانية عنه، فيُستهدف، وقد اعتُبر العداء جوهره الفرد، برمته ومن دون تمييز، وفي كل مناحي حياته وبالوسائل كلها. مبرر ذلك أن وصمه بالإرهاب قد أضحى صفته وتعريفه الحصرييْن، يخرجانه من دائرة البشر، ويسوغان الوسائل كلها المستخدمة ضده ويرفعان عنها كل حرج.

بهذا المعنى، يمكن القول إن حرب إسرائيل على غزة هي «فلسفة» غوانتانامو، وقد اتسعت مدى، بحيث أضحت تُتوخى، ليس فقط على صعيد مجموعة من المعتقلين، في معسكر ناءٍ يقع، على نحو ما، خارج الجغرافيا وعلى تخوم العالم المُتمدن، ضرباً من فراغ، بل على شعب بأسره، «كيان» برمته، جهراً، وعلى مرأى ومسمع من المجموعة الدولية، على ما لا يني يُذكّر الفلسطينيين.

وأنكى ما في الأمر أنه يبدو وكأن الرأي العام العالمي، ناهيك عن الدول الفاعلة والصادحة بحقوق الإنسان، قد استدخل تلك المقاربة، وسلّم بها «ثقافة» يأخذ بها، فلا يجد في ما يكابده فلسطينيو القطاع، وقد استغرقتهم وصمة الإرهاب وانطبقت عليهم انطباقاً شاملاً لا يستثني رضيعاً أو شيخاً طاعناً في السن، ما يدعو إلى الاستنكار أو إلى نجدتهم.

* كاتب تونسي