للهند مكانة متفردة في تاريخ الإسلام وحضارته ليس فقط لوقوع أجزاء كبيرة من شبه القارة الهندية في ديار الإسلام خلال العصور الوسطى، ولكن أيضاً بحكم التأثير الكبير الذي تركته ثقافة الهنود وعلومهم في مجمل التراث الإسلامي.ويكفي للدلالة على عمق الارتباط بين تاريخ الهند وحضارة الإسلام أن نشير إلى أن البناء الإسلامي الوحيد المعدود الآن بين عجائب الدنيا السبع الجديدة هو «روضة تاج محل» الواقعة في مدينة أجرا الهندية، وأن اختراع الصفر وما خلفه من نتائج عظيمة في علوم الرياضيات قد أخذه العرب عن الهنود لينشروه مع معطيات الفلكيين الهنود في كل أرجاء عالم العصور الوسطى.
وقد ساهمت الهند تحت حكم المسلمين بصورة فعَّالة في إثراء الإنتاج المعماري والفني للحضارة الإسلامية على قاعدة التأثير والتأثر المتبادلين وخصوصا في الحقبة المغولية التي شهدت أطول فترة حكم إسلامي مستقر في شبه الجزيرة الهندية بأسرها.
ففي عام 1526 اضطر الأمير ظهير الدين محمد بابر حفيد تيمورلنك إلى مغادرة عاصمة مملكته في فرغانة بأواسط آسيا عقب نشوب الحروب التركية ضده، ولم يجد من مكان يأوي إليه سوى البنجاب الهندستان، وعقب غزوتين متتابعتين نجح بابر في دخول لاهور قصبة البنجاب ثم أجرا، ليجلس على عرش الهند مفتتحا بذلك حكم أباطرة المغول في البلاد. ومن بعد ظهير الدين محمد بابر تعاقب أفراد أسرته على العرش حتى كان آخر الأباطرة وهو سراج الدين بهادرشاه الذي فقد عرشه نتيجة للغزو البريطاني للهند في سنة 1858.
وتكاد التصاوير أو المنمنمات التي صورت في عهد الدولة المغولية بالهند تلخص بصدق الأطوار التي مرت بها حضارة الإسلام في هذه البقعة الخاصة جداً من أرض الشرق الآسيوي.
فهذه الأطوار تبدأ بالاقتباس من حضارة أكبر الجيران، بلاد فارس، ولا فرق في ذلك بين اللغة الفارسية، التي ظلت لبعض الوقت لغة رسمية للبلاط المغولي وبين الاستعارة المعمارية من مفردات العناصر البنائية السائدة في إيران وأواسط آسيا أو بين الالتصاق الكامل بتقاليد وفناني التصوير الإيراني.
وبعد فترة الاستعارة من جيران الشرق الإسلامي تأخذ ملامح الواقع الهندي في الظهور وقد أشربت روحاً إسلامية خاصة، ولكن ذلك الاتجاه الجديد لم يصمد طويلاً أمام الزحف الأوروبي، الحضاري ثم العسكري، بعد ذلك، لتبدو المنتجات الفنية ولوحات التصوير في مقدمتها وقد اكتسبت مسحة أوروبية واضحة.
ويعزي التأثير الفارسي الأول على فن التصوير المغولي الهندي إلى حادثة تاريخية شهيرة وهي فرار نصير الدين محمد همايون بن بابر من الهندستان أمام ضغوط جيوش القائد الأفغاني «شيرشاه سوري» ليعيش منفياً ولاجئاً في بلاط الشاه الصوفي طهماسب مدة خمسة عشر عاماً قبل أن يتمكن من استعادة عرشه.
وخلال السنوات من 947هـ إلى 962هـ التقى همايون وابنه الأكبر الذي تولى الملك من بعده جلال الدين محمد أكبر بمشاهير المصورين الفرس في بلاط الشاه طهماسب وأعجب الامبراطور وولي عهده بأعمالهم حتى انهم استقدموا البعض منهم للعمل في البلاط المغولي بالهند.
ويعتبر عصر السلطان أكبر من أزهى عصور الهند التاريخية، إذ أسس عاصمة جديدة لملكه وهي مدينة «فتح بورسكري» واستعان في تجميل قصورها بفنانين من إيران والهند، وكذلك أسس محمد أكبر المعهد الامبراطوري لفنون الكتاب ليعمل به نحو مئة من الفنانين الهنود تحت إشراف عدد من المصورين الإيرانيين مثل عبدالصمد الشيرازي ومير سيد على التبريزي.
ويعتبر عبدالصمد الشيرازي من أوائل المصورين الإيرانيين الذين عملوا في بلاط مغول الهند، حيث شارك في تصوير مخطوطة فارسية من القصائد الخمس لنظامي قبل أن يفر همايون من الهند إلى إيران، وفي عهد السلطان أكبر شارك عبدالصمد مع خمسين مصوراً هندياً وإيرانياً في تصوير مخطوطة من كتاب «حمزة نامه» التي حوت ألفين وأربعمئة صورة من الحجم الكبير غير المألوف.
وقد لحق بعبد الصمد فنان إيراني كبير هو «مير سيد علي التبريزي» الذي ترك لنا بعضاً من أعماله الأولى بالهند.
ويبدو من دراسة الصور الهندية التي أنجزت حتى قبيل نهاية القرن العاشر الهجري (15م) مدى الأثر العميق الذي تركه أسلوب التبريزي على فناني البلاط المغولي.
ومن أشهر اللوحات التي أبدعها التبريزي صورة احتلت صفحتين متقابلتين من إحدى المخطوطات وهي توضح مناظر من مخيم بدوي وتتجلى فيها العناية بأدق التفاصيل وصدق تمثيل الواقع ومحاولة التفريق بين الأشخاص عن طريق تنويع الحركات والأفعال التي يقومون بها وسحنات الوجوه أيضاً.
وفي المقدمة من هذه الصورة نجد عدة أشخاص يجلسون على سجادة كبيرة فرشت فوقها سجادتان للصلاة وقد أظلّتهم خيمة مزخرفة بثراء واضح، ويبدو أنهم كانوا يستعدون لوليمة، حيث يظهر شخصان إلى أقصى يسار الصورة وهما يحملان الطعام، ورغم أن المنظر لمعسكر في البادية فإن الأرض أمام الخيمة قد ظهرت على هيئة بساط أخضر حافل برسوم الورود والازهار وكذا بالطيور المنزلية. وبعد هذه الخيمة التي تمثل الجزء الرئيسي لهذا المنظر الخلوي تتابعت الخيام المتنوعة الألوان، فثمة واحدة حمراء ذات زخارف صينية الطابع وقد جلست بداخلها سيدتان تتجاذبان أطراف الحديث وأخرى بيضاء وأمامها سيدتان تخضّان اللبن لإخراج الزبد، وفي خيمتين لونتا باللون الأخضر تمارس بعض السيدات أعمالاً روتينية كإرضاع الصغار وإحراق البخور. وفي ما بين هذه الخيام تنتشر أصناف الحيوانات المختلفة من إبل وأبقار وأغنام بصحبة بعض أشخاص منهم من يوقد ناراً أسفل قِدر طعام، بل وهناك سيدة تغسل ثياباً في جدول تنساب مياهه لتخترق وسط الصورة من أعلى.
وسرعان ما خبت الروح الإيرانية التي بثها الشيرازي ومن بعده التبريزي وتراجعت أمام نفوذ التصوير الهندي المحلي الذي استجاب بسرعة شديدة إلى نفوذ مدارس التصوير الأوروبي.
ففي المكتبة البودلية باكسفورد توجد صورة من عمل الفنان الهندي «مسكينا» توضح قصة الزوجة الخائنة، التي ضبطها الزوج المخدوع بداخل خيمة نصبت بالخلاء مع أحد الأشخاص.
وتتجلى التأثيرات الأوروبية في هذه اللوحة أولاً في عناية «مسكينا» بمراعاة قواعد المنظور، حيث رسم الأشخاص في مقدمة الصورة بأحجام أكبر من أولئك المرسومين في خلفيتها، ثم في حرصه على إظهار تأثير الظل والنور واستخدامه لتجسيم شخوصه، وكذلك تتبعه طيات الثياب وهي تتجاوب مع حركات الأجساد، وأيضاً رسوم الأشجار المستوحاة من لوحات أوروبية. ولم يبق للتصوير الإيراني من نفوذ في هذه الصورة سوى العناية بالتفاصيل والروح الزخرفية الواضحة في زخارف الخيام وفي رسوم الصخور على هيئة الشعاب المرجانية.
ولا مراء في أن هذا الفنان الهندي قد أجاد تصوير ثورة الزوج وهلع زوجته من العقاب المنتظر وأيضاً ارتعاد العاشق الذي يرقب وجلاً من داخل الخيمة محاولات بعض النسوة تهدئة ثائرة الزوج.
ومن المصورين الهنود الذين تشرَّبوا قواعد التصوير الأوروبي الفنان «إخلاص مادهو» الذي شارك في تصوير مئة وسبعة عشر صورة ضمن مخطوط من كتاب «أكبر نامه» يحتفظ به متحف فيكتوريا وألبرت بلندن.
وفي صورة لهذا الفنان تتضح قدراته الفذة على رسم الصورة الشخصية «البورتريه»، حيث صور لنا الامبراطور أكبر وهو يعبر نهر الجانج في إحدى معاركه. ويظهر الامبراطور المغولي فوق ظهر فيله وحوله الأتباع ورجال البلاط والحراس يعبرون النهر فوق ظهور الفيلة والخيول وقد حملوا سيوفهم وحرابهم ومنهم من يسبح في النهر وهو ممسك بعنان فرسه.
ولكن من الملاحظ في عمل «إخلاص مادهو» أنه قد تخلى عن قواعد المنظور ليبرز لنا الامبراطور أكبر في حجم يزيد بصورة واضحة عن الأشخاص الذين صوَّرهم في مقدمة الصورة، كما أهدر بصورة مفاجئة أصول تمثيل الظل والنور، حيث صور موضوعه وكأنه يجري في وضح النهار رغم أنه رسم حامل الشعلة خلف الامبراطور ليشير إلى أن عبور النهر المقدس كان يتم ليلاً.