لويا جيرغا في الكويت!
إذا كانت القبيلة تحتل كل هذه المساحة في ضمير الكويت وعقلها الجمعي، وإذا كانت الانتخابات البرلمانية لا تجري من دون «فرعيات» تفرز المرشحين من أبناء القبائل قبل الدفع بهم إلى المنافسة العامة؛ فلماذا لا يُقنن الأمر، ويُمارس وفق تنظيم شرعي مسبق، بدلاً من الدخول في صدامات مع الحكومة والتيارات الحداثية، وتبديد الوقت والجهد، وحرف الجميع عن القضايا الأكثر أهمية وإلحاحاً.لطالما تم التركيز على الطبيعة الخاصة للديموقراطية الكويتية، والتأكيد على خصوصية تلك الطبيعة وافتراقها عما سواها على المستويين الإقليمي والدولي، واحتفاظها، على مر العقود، بالطابع الكويتي بتفصيلاته وسماته وتكويناته المختلفة، ومن ذلك، وفي صلبه من دون شك، التكوين الاجتماعي للبلاد؛ الذي يحترم القبيلة بوصفها الكيان الأسري الممتد، ويحفل بمآثرها وسماتها الإيجابية وصفاتها الأصيلة.
ومن حسن الحظ أن الدستور يتيح فرصة إجراء التعديلات والتنقيحات، وفق آلية دستورية محددة، تستثني فقط ما يتعلق بـ«الأحكام الخاصة بالنظام الأميري وبمبادئ الحرية والمساواة»، التي لا يجوز تعديلها إلا في أحوال «تغيير لقب الإمارة، أو منح المزيد من ضمانات الحرية والمساواة».فما الذي يمنع من بحث اقتراح إجراء تعديل دستوري، ينص على تحويل السلطة التشريعية إلى نظام الغرفتين بدلاً من الغرفة الواحدة، بحيث يمكن انتخاب «مجلس أعيان قبلي تقليدي»، على غرار «لويا جيرغا» في أفغانستان، وتوضع له صلاحيات شبيهة بتلك المعمول بها في النظام الأفغاني؟الأمر لا ينطوي على أي صعوبة؛ إذ تتيح المادة 174 من الدستور «للأمير ولثلث أعضاء مجلس الأمة حق اقتراح تنقيح الدستور أو حذف حكم أو أكثر من أحكامه، أو إضافة أحكام جديدة إليه، فإذا وافق الأمير وأغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس الأمة على مبدأ التنقيح وموضوعه، ناقش المجلس المشروع المقترح مادة مادة، وتشترط لإقراره موافقة ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس».فإذا كانت «الفرعيات» أفرزت «ثلث» أعضاء المجلس العتيد فعلاً، وفي قول آخر «نصفهم»، فليس أسهل من تحريك هذا الاقتراح، نحو تكريس عظمة القبيلة ونفوذها الدائم في الحياة السياسية في البلاد.وكما هو معلوم فـ«لويا جيرغا» هي جمعية وطنية أفغانية، عبارة عن «مجلس أعلى للقبائل»، يضم أعيان ووجهاء القبائل الأفغانية المنتشرة بطول البلاد وعرضها، ويتمتع بصلاحيات دستورية واضحة ذات أهمية وخطورة، ودائماً ما ينعقد خصوصاً في أوقات الأزمات والاستحقاقات السياسية والاجتماعية والاستراتيجية الخطيرة. وتتعلق صلاحيات «لويا جيرغا» في أفغانستان بأمور الاستقلال، والسيادة، والوحدة الترابية، والتعديلات الدستورية، كما يمكنه محاسبة الرئيس. وقد كان دور ذلك المجلس التقليدي القبلي حاسماً في إقرار الدستور الأفغاني الأخير في يناير 2004، وقبلها في اختيار حامد قرضاي رئيساً انتقالياً للبلاد، قبل أن يصار إلى تثبيته عبر الانتخابات الرئاسية العامة التنافسية.وبانتقال تجربة «لويا جيرغا» إلى الكويت عبر التعديل الدستوري المقترح، ستتمكن القبائل الشغوفة بإجراء انتخاباتها الفرعية من تكريس تكنولوجياتها وانتمائها الأولي وحماسها القبلي/الانتخابي في خدمة عصبياتها وارتدادها عن شروط الحداثة واعتبارات الدولة المدنية.وستجري انتخابات أو توافقات أو تشاورات القبائل لترشيح أعيانها إلى «لويا جيرغا» الكويتية في وضح النهار وبحراسة الأمن وتحت عدسات مصوري الصحف والفضائيات ووكالات الأنباء العالمية. وفي الوقت نفسه سيتمتع أعضاء «لويا جيرغا» الكويتية باختصاصات محددة يتم التوافق عليها سياسياً قبل أن تقنن؛ بما يضمن للقبيلة اعتبارها وتمثيلها في مؤسسة السلطة التشريعية، ويعطي الحرية للوجهاء القبليين لإبراز عظمة «انتمائهم البيولوجي» وقدرتهم على خدمته وصيانته عبر الوسائل السياسية الحديثة.وعلى الصعيد الموازي، ستكون انتخابات مجلس الأمة أكثر سياسية وتوافقاً مع اعتبارات الحداثة ومتطلبات الدولة الوطنية والمدنية، وسيجري التنافس بين المرشحين على أساس موضوعي سياسي برامجي، بحيث تتصارع الأفكار والرؤى السياسية لا الإثنيات والانتماءات القبلية والطائفية والمذهبية.ستأخذ «لويا جيرغا» الكويت إلى تشبثها بالتقليدية وانكفائها على أسوأ ما تفرزه العصبية بأنواعها من فساد وخطل، فيما ستمنح الانتخابات العامة التنافسية على مقاعد مجلس الأمة، والمنزهة عن «الفرعيات»، للبلاد وجهها المدني، وسمتها الوطني، واحتفاءها بالتقدم والحداثة والتطور، واحترامها للعلم والكفاءة، وإيمانها بالغد والأمل.يبقى أن «لويا جيرغا»، وهي اختراع أفغاني خالص، تم استنساخها في باكستان في زمن اضطرابها، وفي العراق بعد تشظيه، وفي أريتريا إثر تأزمها، وفي الصومال في أعقاب تمزقه، وفي ذلك يقول رب العزة «إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون».* كاتب مصري