نتابع في هذه الحلقة تفاصيل لقاء صدام مع السفيرة الأميركية لدى بغداد ابريل غلاسبي، في 25 يوليو 1990، أي قبل أيام من القيام بخطيئة العمر عبر غزوه الكويت، كما عرضها الكاتب علي بلوط.«... نقل صدام الحديث من السياسة الى النفط. الكويت والإمارات تغرقان السوق العالمي بالنفط وتتعديان حصصهما في منظمة أوبك (OPEC). (بالنسبة إلى صدام فإن هذا هو السبب الرئيسي للأزمة الاقتصادية في العراق). وسأل ابريل غلاسبي: ما معنى الإعلان الأميركي الذي صدر اليوم بأن الولايات المتحدة لديها واجبات الدفاع عن أصدقائها بشكل منفرد أو جماعي؟
لو كانت غلاسبي أجابت عن هذا السؤال، كما كان يتوقع صدام، لارتكبت بذلك خطأ كبيراً. لكن الصمت في معظم الحالات الحرجة يغني عن الجواب. انتظر صدام عدة ثوان، وعندما لاذت السفيرة الأميركية بالصمت المطبق، تولى صدام مهمة الاجابة عن السؤال الذي طرحه. قال: بالنسبة إلينا فهذا يعني أن الولايات المتحدة وقفت ضد العراق في الوقت الذي تشجع فيه الكويت والإمارات على السير بسياستهما المعادية للعراق الى آخر الطريق.
... وحتى يتلافى صدام توجيه الاتهام الى مجموعة دول الخليج كلها بالعمل ضد المصالح العراقية، عاد الى لهجة معتدلة، فقال: نحن نفهم اهتمام الولايات المتحدة بضرورة استمرار تدفق النفط، كذلك نفهم رغبتها بإقامة علاقات الصداقة مع دول المنطقة. وأيضاً نفهم رغبتها في سلام دائم في المنطقة. ولكن على الولايات المتحدة ألا تقحم نفسها بأساليب هي نفسها لا تقرها مثل الضغط وعرض العضلات.
... في ما بعد قال لي طارق عزيز ان غلاسبي بعد سماعها كلام صدام الأخير بدأت تلعب بإحدى خصلات شعرها وحاولت أن تقاطع الرئيس، للمرة الأولى منذ المقابلة. تجاهل صدام حركة غلاسبي واستمر في الكلام: نحن لا نضع الولايات المتحدة في خانة أعدائنا، ولكن يبدو لنا من تكرار التصريحات الرسمية الصادرة من واشنطن خلال هذه السنة أن الولايات المتحدة لا تنظر الينا كمشروع صديق. إن سياستنا مبنية على أساس التعامل مع الآخرين حسب أحجامهم ونودّ أن نُعامل بالمثل. نحن نأخذ بعين الاعتبار مصالح الآخرين إذا كان الآخرون يفعلون الشيء ذاته.
مضى صدام يطرح الأسئلة ويجيب عنها بنفسه: ما معنى دعوة وزير الدفاع الصهيوني لزيارة واشنطن في هذا الوقت بالذات؟ وما معنى التصريحات الإسرائيلية الملتهبة التي تتحدث عن الحرب في الأيام الأربعة الأخيرة؟ نحن لا نريد الحرب لأننا نعرف نتائجها، ولكن لا تدفعونا الى اعتبار الحرب خيارا وحيدا للحفاظ على كرامتنا. نحن ندرك الحقائق كلها، ونعرف أن بمقدوركم أن تأتوا إلى العراق بطائراتكم وصواريخكم. نحن نعرف جيداً قدراتكم كقوة عظمى، ولكن لا تدفعونا الى الاستهزاء بهذه الحقيقة. ومتى نستهزأ بهذه القوة الجبارة؟ عندما نشعر بأنكم تسعون الى إذلالنا وتأخذون منا فرصة العيش الكريم. إذا حصل ذلك فالموت أفضل لنا جميعاً.
... قال لي عزيز إن الرئيس توقف عن الكلام قليلاً وبدأ يلعب بسيكاره الكوهيبا، ربما لإعطاء السفيرة الأميركية فرصة هضم كلامه. ثم تابع: نريد حقاً صداقتكم، ولكننا لن نسعى وراءها إذا تبين أنكم لا تبادلونا بالمثل. نحن نرفض بشكل تام أن نجرح من قبل أي شخص أو دولة. اذا ما سنحت لنا الفرصة فإننا سنقاوم بشراسة. هذا حق الإنسان، محفوظ لكل انسان سواء جاء الجرح من الولايات المتحدة أو من دولة الإمارات أو من الكويت أو من إسرائيل. وأنهى صدام حواره الفردي بإطلاق «صاروخ» باتجاه وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر، وقال: أتمنى أن يسمع الرئيس بوش كل كلمة قلتها، وألا يترك الأمر بين أيدي مجموعة معينة في وزارة الخارجية.
لأول مرة، أعطيت ابريل غلاسبي فرصة الكلام، فقالت: السيد الرئيس، لقد فهمت الرسالة جيداً. (المحضر العراقي لم يذكر بالتفصيل أجوبة غلاسبي عن صدام، وطبقاً لما قاله عزيز لي فإن الجواب كان عبارة عن دفاع عن سياسات بوش في ضوء اتهامات صدام. لكن المحضر سجل موضوع النفط). قالت غلاسبي: السيد الرئيس، ما تقوله عن ان الولايات المتحدة لا تريد اسعار نفط عالية هو صحيح. لكن الصحيح أيضاً أنكم ترغبون في زيادة الأسعار بشكل غير معقول. أنكر صدام هذه التهمة وقال: إننا لا نسعى الى اسعار نفط عالية وصوت العراق كان معتدلاً بالنسبة إلى هذا الموضوع بالمقارنة مع أسعار المنتجين العرب الآخرين. في عام 1974 قدمت شخصياً للرفيق عزيز افكاراً كتبها في مقال نشر في حينه انتقد فيها سياسة رفع اسعار النفط بشكل عشوائي ومن دون دراسة ما يترتب عليها وكانت هذه المقالة الأولى من نوعها في العالم العربي كله. (عزيز كان يجلس الى جانب صدام فوافق على هذا القول مضيفاً ان سياستنا في الأوبك كانت ولا تزال ضد رفع اسعار النفط من دون دراسة علمية). تدخل صدام فقال: ان 25 دولاراً للبرميل ليس سعراً عالياً. وكسفيرة لرئيس لديه علاقات جيدة بصناعة النفط سارعت غلاسبي الى ابداء ترحيبها، وقالت: هناك مجموعة في الولايات المتحدة سيسعدون جداً اذا ارتفع سعر البرميل عن 25 دولاراً وهؤلاء من الولايات المنتجة للنفط. ووجدها صدام فرصة سانحة للتحدث عن انخفاض سعر الذهب الأسود في ذلك الوقت، وقال: ان سعر البرميل اليوم 12 دولارا وهذا يعني انخفاضا كبيرا ملحوظا في موازنتنا... نحو 7.6 مليارات دولار. هذا يعني افلاس لنا.
اغتنمت غلاسبي الفرصة لتتحدث عن اسعار النفط والسياسة النفطية في محاولة لتلافي الجو المتوتر الذي خلقه صدام في حديثه السياسي.
عزيز قال لي في ما بعد انها نجحت. وبعد ان تأكدت ان جو الاجتماع صار اقل تشنجاً عادت الى فتح المواضيع السياسية وبدأت تسأل عن ماهية المشاكل بين العراق والكويت الى ان توصلت الى القول: إذا وافقتم على تسوية مقبولة بشأن سعر النفط بين بلديكم بشكل مرض للسوق العالمي، فأنا اعتقد أن جزءاً كبيراً من الأزمة مع الكويت سوف يزول. ألا توافق معي على ذلك؟ صدام أجاب عن سؤالها بسؤال: في رأيك إن المشاكل مع الكويت هي أبعد من الاتفاق على أسعار النفط؟ ولكن لنفترض أن الكويت استمرت في سياسة اغراق السوق، وان الأسعار تدهورت أكثر، وأن الكويت لم تتوقف عن تآمرها السياسي ضدنا، ماذا تتوقعين أن يكون موقف الولايات المتحدة؟
... قال لي عزيز في ما بعد ان ملامح عدم الرضا عن هذا السؤال كانت واضحة على حركات غلاسبي. لكن جوابها كان دبلوماسياً بدرجة ممتازة، مما عزز القناعة لدى صدام بأن الولايات المتحدة لن تتدخل عسكرياً ضد العراق إذا غزا الكويت. قالت غلاسبي: ان خلافكم مع الكويت ذو طعم تاريخي. لقد عملت في الكويت في الستينيات وكانت التعليمات المعطاة لنا انه لا دخل لنا في هذا الخلاف. كرّر وزير الخارجية أخيرا هذه التعليمات ومتحدث رسمي في واشنطن أعرب عن أمله في حل المشاكل بطريقة مرضية.
ذكر عزيز ان غلاسبي صمتت لحظات عدة ونظرت بعمق الى وجه صدام لمعرفة تأثير الجواب من خلال ملامحه ثم انتقلت الى السؤال الأهم لقراءة ما في ذهن صدام عن الحشود العسكرية على الحدود الكويتية، فقالت: إني أتساءل عن مغزى ومعنى حشد القوات العراقية في الجنوب وما يمكن ان تحققه. لقد قرأت بإمعان خطابك في احتفالات الثورة في 23 يوليو، والذي قلتم فيه ان تصرفات الكويت والإمارات وصلت الى مستوى العمل العسكري ضد العراق. من المفهوم أن عليَّ أن أقلق من هذا ومن الطبيعي ان أعرب لك عن قلقي الآن. لقد تلقيت تعليمات لأسألك عن نواياك بالنسبة إلى الحشود. واشنطن طلبت مني ان اضع صيغة السؤال بروح الصداقة وليس بروح المواجهة. هدفنا بسيط وهو صناعة السلام ونحن نهتم ونقلق لكل شيء يتعلق بالسلام ليس في العراق فحسب بل في العالم كله.
... صدام كان لطيفاً وقوياً في الوقت ذاته عندما رد قائلاً: نحن لا نطلب من أحد ألا يقلق أو يهتم بأمور السلام أو بالظروف التي تهدد السلام. هذا إحساس إنساني ونحن نشارك به وهو أيضاً إحساس إنساني وطبيعي أن تهتم الولايات المتحدة كقوة عظمى وأن تقلق، ولكن من الخطأ ارسال اشارة الى المعتدي بأنه سيكون محمياً. هذا ما نريده وهذا ما عنيناه من خلال حشد قواتنا على الحدود.
... قال لي عزيز ان صدام نفسه صمت قليلاً وعندما تابع كلامه كان يزن كل كلمة يقولها: نحن لا نطلب حلاً على حساب الآخرين، كذلك لا نقبل أبداً أي حل على حسابنا. ونريد أن نشعر الآخرين بأن صبرنا قد نفد. لا نرغب في الاعتداء ولا نقبل اعتداء الآخرين علينا. لقد أرسلنا لهما (الكويت والإمارات) مبعوثين خاصين ورسائل مكتوبة وحاولنا كل جهدنا في هذا المجال. أبلغنا رغبتنا لخادم الحرمين الملك فهد بن عبدالعزيز بالدعوة لعقد قمة تضم المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات والعراق لحل هذه المشكلة. اقترح الملك اجتماعاً على مستوى وزراء النفط فوافقنا وحصل الاجتماع. تم الوصول الى اتفاق أقل من توقعاتنا ولكننا قبلنا به. بعد يومين هاجم وزير النفط الكويتي هذا الاتفاق. وخلال القمة العربية التي عقدت في بغداد أبلغت القادة العرب أن بعضاً من إخواننا قد أعلنوا الحرب الاقتصادية على العراق. جاءني الرئيس مبارك وأبلغني أن حكام الكويت يخشون من نتائج الحشود على الحدود. ان الحشود كانت على بعد 20 كلم في الجانب العراقي من التخطيط الحدودي الذي وضعته الجامعة العربية. قلت للرئيس مبارك لن يحصل أي شيء قبل أن نجتمع بهم (الكويتيين) وعندما نفشل في العثور على حل فمن الواضح أن العراق لن يسمح بأن يموت. على كل حال الحكمة سوف تسود في النهاية.
... بعد ان لفظ صدام عبارة «الحكمة ستسود»، ظهرت على وجهه ابتسامة عريضة. قالت غلاسبي: اذاً عندك انباء جيدة. وتحركت غريزة الصحافة بطارق عزيز وشارك في حفلة الابتهاج فقال: هذه الاخبار ضربة صحافية. ولأن صدام لم يعتد تقديم الجزرة من دون العصا لأصدقائه وخصومه على حد سواء، فقد شهر في وجه سفيرة الولايات المتحدة الأميركية عصا سياسية غليظة عندما قال لها: على هذا الكرسي الذي تجلسين عليه، جلس عليه قبلك ابن الملّا مصطفى البارزاني. في عام 1974، إدريس جاءني برسالة يطلب فيها تأجيل تنفيذ قانون الحكومة المركزية في المنطقة الكردية والذي وافقنا عليه في اعلان 11 آذار 1970، قلت له انني اصر على تنفيذ هذا الوعد. وعندما شعرت بأن البارزاني الأب (مصطفى) عنده نوايا سيئة، قلت لإدريس: ابلغ سلامي الى والدك وقل له اذا حصل القتال بيننا فنحن الرابحون. أتعرف لماذا؟ سأقول لك: انتم الأكراد تعتمدون على خلافاتنا مع ايران. وإيران تعتمد على خلافاتها مع العراق لتضع يدها على نصف شط العرب. واذا خيّرنا بين ضياع نصف شط العراق كله فسنختار اعطاء نصف شط العرب وانتم الأكراد الخاسرون. هذا ما حصل مع البارزاني. خسر المعركة ومات ودفن خارج العراق.
أنهى صدام المقابلة عندما منح ابريل غلاسبي ابتسامة ملء وجهه، ووقف مودعاً، قائلاً: أتمنى ألا ندفع الى تكرار هذا العمل.