إمبراطورية مبتسرة

نشر في 22-01-2008
آخر تحديث 22-01-2008 | 00:00
 صالح بشير

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية اكتفت الولايات المتحدة إلى حد بعيد، بإدارة النفوذ الذي ترتب على انتصارها فيها، لا سيما في أوروبا الغربية. أما ارتضاء الدور الإمبراطوري، والإقبال عليه سياسة واعية وإرادية وتوجهاً استراتيجياً واضحاً محدد المعالم، فهو لم يتحقق على الأرجح إلا مع نشوب الحرب الباردة.

قد لا يفي العامل الديني، وقد فعل فعله وشيجةً قوية على صعيد العقيدة وأداة لأسطرة التاريخ، كما أشرنا في المقالة السابقة، في تفسير تلك العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وتحديداً ذلك التعلق بتجربة المحرقة، في خصوصيته الأميركية، استذكاراً لجوجاً ملحاحاً وتعهداً بجعل القوة الأميركية، وهي ما هي، حائلاً منيعاً من دون تكرارها.

فالتفسير ذاك، إن افترضنا صحته، يظل جزئياً، فهو قد يكون ناجعاً في تعليل الخلفية الوجدانية الثقافية لتلك العلاقة الخاصة، ولكنه قد لا يجدي في الوقوف على كيفية تفعيل ذلك التعلق بتجربة المحرقة في السياسة الأميركية الراهنة، بل على نحو أعم، في نظرة الولايات المتحدة إلى نفسها، كإمبراطورية لا تقصر قوتها على الأسباب المادية لتلك القوة، سطوةً عسكرية لا تضاهى وغلبة اقتصادية عز نظيرها، بل تطمح فوق كل ذلك، وربما تسويغاً لا مناص منه لكل ذلك، في أن تستوي أيضا، على الصعيد الكوني، سلطة أخلاقية تضطلع برسالة.

لا تشذ الولايات المتحدة في ذلك الصدد عن مثال معهود، لابَس كل مسعى إمبراطوري عبر التاريخ، يموّه نوازع القوة السافرة ببرقع من مثل أعلى، «دينا حقّا» يرفع رايته أو «مهمة تحضيرية»، شأن «عبء الإنسان الأبيض»، ينهض بها.

ليس في الأمر غش وتحايل وتآمر بالضرورة، أو أنها إن وجدت فأصحابه هم أولى «ضحاياها»، ذلك أن بني البشر يحرصون، في كل ما يفعلون، على الانتساب إلى هدف سام وإلى غاية متعالية.

لذلك ربما توجب النظر في المسار الخاص الذي توخته الولايات المتحدة في الارتقاء إلى منزلتها الإمبراطورية وفي حيازتها. ولعل أول ما يمكن ملاحظته وما ينبئ به تاريخها (الوجيز أصلاً) أن الدولة تلك كثيرا ما أعطت الانطباع بأنها انجرت في ذلك المنحى الإمبراطوري انجراراً لم ترده بل كانت ميّالة إلى الممانعة حياله، كأنما العالم، وما اعتمل فيه من صراعات اتخذت أبعاداً كونية، هو الذي فرض نفسه عليها قبل أن تفرض نفسها عليه، وهي التي ظلت على الدوام، وحتى في لحظات الأوج من تمدد نفوذها الخارجي وحتى بعد أن ابتدعت «العولمة»، مشدودة بهذا القدر أو ذاك إلى غريزة «الانعزال»، في ذلك العالم-القارة الذي أنشأتْه وحوّلته إلى «جزيرة».

وهكذا، «تأخر» خروج أميركا إلى العالم، قياساً إلى ما بلغته من قوة، حتى الحرب العالمية الأولى، المسماة بـ«الحرب الكونية الكبرى»، تلك التي استُدرجت إليها استدراجاً، وشهدت لأول مرة، تبنيها خطاباً كوني النبرة والأبعاد، تمثل في مبادئ وودرو ولسن (رئيسها آنذاك) الشهيرة. لكن الولايات المتحدة سرعان ما عادت إلى الانكفاء، حتى إذا ما نشبت الحرب العالمية الثانية تلكأت في الضلوع فيها، بالرغم من جهود رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل في استمالتها إلى صف الحلفاء، ومع أن طبيعة النظام النازي كانت جلية معلومة. وهي لم تكن على أهبة الاستعداد لخوضها، متواضعة القوات قليلة التسليح والإعداد، فكان عليها، عندما اضطرت إلى دخول النزاع، من بابه الخلفي، إن جازت العبارة، بعد أن باغتها اليابانيون بهجوم كاسح في بيرل هاربر، أن تحول آلتها الصناعية الضخمة إلى الإنتاج الحربي لتدارك نقصها وما فاتها، وكان أن قادت معسكر الحلفاء إلى الانتصار.

حتى تلك اللحظة، لم تكن الولايات المتحدة قد بلورت خطاباً إمبراطورياً، كأنها وجدت صعوبة في ارتضاء قدَرها الإمبراطوري ذاك وفي النهوض به. فقد آل إليها أو آلت إليه بقوة الأشياء وبدفع الأمر الواقع، كما أن خلفية ذهنية بعينها، قوامها البراغماتية والحس العملي، في بلد لم تستهوه يوماً الإيديولوجيات الكبرى، قد حالت بدورها دون ذلك. صحيح أن مواجهة ألمانيا قد تمت باسم الدفاع عن الحرية، ولكن الأمر لم يكد يعدو، إلا بمقدار، ما تقتضيه متطلبات التسويغ والدعاية في زمن الحرب، إذ لا بد من وجود وازع قوي، ومن تصوير الوطن في صورة مُثلى، من أجل تحمل التضحيات ودفع الجنود إلى التضحية بحياتهم.

أما بعد نهاية الحرب، فقد اكتفت، الولايات المتحدة، إلى حد بعيد، بإدارة النفوذ الذي ترتب على انتصارها فيها، لا سيما في أوروبا الغربية. أما ارتضاء الدور الكوني، أي الدور الإمبراطوري، والإقبال عليه سياسة واعية وإرادية وتوجهاً استراتيجياً واضحاً محدد المعالم، فهو لم يتحقق على الأرجح إلا بعد ذلك، مع نشوب الحرب الباردة (وبروز القطب السوفييتي) منذ خمسينيات القرن الماضي واشتدادها في عقد الستينيات منه (القنبلة الذرية السوفييتية، التي أنهت احتكار أميركا لذلك السلاح، سباق الفضاء، إقامة جدار برلين، أزمة «خليج الخنازير» في كوبا...الخ).

غير أن ما قد يكون لافتا في الصدد الذي يعنينا هنا، أن المحرقة اليهودية كانت غائبة عن الوعي الغربي، والوعي الأميركي تحديداً، طيلة الحرب العالمية الثانية والعقدين اللذين أعقباها. إذ لم يزعم أي من الدول الغربية أنه خاض الحرب من أجل إنقاذ اليهود، بالرغم مما كان معلوماً من مشاعر هتلر حيالهم، بل إن تلك الدول أجمعت على القول إنها لم تكن تعلم من أمر المحرقة شيئاً، حتى دخول الجيش السوفييتي إلى المعتقلات التي أقامها النازيون في بولندا وقيامه بتحرير نزلائها.

لم تصبح للمحرقة تلك الحظوة التي نعلمها لها لدى الغربيين إلا بعد حرب سنة 1967 العربية-الإسرائيلية، وهو ما قد لا يخلو من بعض المفارقة، إذ كان «الباعث» على تلك الحظوة تحقيق الدولة العبرية لأكبر انتصاراتها العسكرية منذ أن استوت كياناً، ما يُفترض أن يؤكد قدرتها على حماية اليهود أو توفير ملاذ آمن لهم.

لكن ما قد يكون الأمر الأهم، أن ذلك الاهتمام بالمحرقة، وحيازتها ذلك الموقع المحوري في الضمير الغربي، وذلك الأميركي خصوصا، إنما «تزامن» مع اشتداد الحرب الباردة، أي مع ارتضاء الاضطلاع بدور إمبراطوري من قبل الولايات المتحدة، يبدو أن هذه الأخيرة لم تجد له من تبرير أخلاقي أقوى من استذكار ما حل باليهود على أيدي النازيين، أي في حرب سابقة، استذكاراً دراماتيكياً على النحو الذي نعلم، كأنما التبرير الأخلاقي ذاك لا يستقيم إلا بالتكفير عن ذنب يُتوجس ارتكابه مستقبلا، إن لم يُرتكب في الماضي.

فهل أن الحرب الباردة ثم الحرب الكونية على الإرهاب، لا يوفران من المبررات الأخلاقية ما يفي بغرضهما، بحيث يتعين رفدهما بمبرر من حرب أخرى، حتى إن أدى الأمر إلى مظالم في حق من ليس له في المحرقة ضلع ولا ناقة ولا جمل؟

* كاتب تونسي

back to top