مجتمع افتراضي!!

نشر في 23-11-2007
آخر تحديث 23-11-2007 | 00:00
 رزان زيتونة

إن مجتمعاً افتراضياً منفلتاً من كل قيد أو ضبط، هو الصورة الحقيقية لمجتمع الأقفال والمفاتيح المرمية في البحر، وخرق المحظور إلكترونياً، هو في أحد أوجهه هروب من المواجهة العملية مع حراس المحظورات، وقد لا يؤدي بالضرورة إلى بناء منظومة جديدة من القيم والعلاقات أكثر انفتاحاً على الآخر واحتراماً له.

حجب موقع الـFace Book في سورية ربما لن يقلق الشباب والصبايا كثيراً، وإن كان سيزعجهم، فمواقع كسر الحجب أكثر من أن تحصى، والمشكلة تبقى عند المنزعجين من مثل هذه المواقع، للسلطة أسبابها «الأمنية» في المنع كما ذكرت إحدى الصحف العربية، لكن للآخرين، وهم كثر، أسباب معقدة ومتشابكة للفرح بهذا المنع، حتى ان أصدقاء من دول عربية أخرى، توجهوا لي بالتهنئة على حجبٍ أحزنني، رغم أنني جربت ولم أتابع استخدام «الفيس بوك» هذا. لم أفهم لماذا يجب على العالم كله أن يخترق خصوصيتي فيتعرف على أصدقائي ويتابع حياتي اليومية، الأهم من ذلك، لم أفهم لماذا يبدو أشخاص أعرفهم جيداً على أرض الواقع، مختلفين جداً على «الفيس بوك»، أيهم أكثر حقيقية، الواقعيون أم الافتراضيون؟!

يحتج كثيرون على الصورة التي يظهر بها شبابنا وبناتنا في مثل هذه المواقع، ويستغربون افتقادهم الرزانة والجدية، ويلومون اتجاههم نحو «الانفلات» من كل ضابط، ويأخذون عليهم تفاهةً وسطحيةً يرونها متفاقمة لاريب، وكيف لهم الانغماس في سفاسف الأمور و«القضية» لم تحل بعد؟ وماذا عن قيمنا وعاداتنا وأصالتنا؟!

«اقترب يوم القيامة» قالت لي جارتي المسنّة، «بدأت الحياة» قالت لي الصبية في ربيعها العشرين، أتفهم الرأيين وأنحاز إلى الثاني، أتفهم ذعر حزب القيامة، من رؤية مجتمعه في مرآة الإنترنت، فكل المرايا كانت قد حُرّمت وحُطّمت في مجتمعاتنا منذ عصور مضت، وأتفهم الخوف من أن الآتي لا يشبههم، وكان طوال الوقت لا يشبههم إنما شُبّه لهم.

تقول الدراسات إن مجتمعاتنا فتيّة، يشكل الشباب النسب الكبرى فيها، ويقول الواقع إن هؤلاء الشباب يتنفسون المحرمات والتابوهات مع الهواء، تابوهات اجتماعية ودينية وسياسية، تتفاعل وتتشابك وتلتف كخيط العنكبوت حول طاقات دفينة ورغبات مكبوتة، ولكل مجتمع سلة مفرداته التي يحكم بواسطتها بالنفي والإبعاد على مخترقي المحظورات، وماذا فعل الإنترنت غير أنه أعطى فرصة للانعتاق، بجنون وعصبية أكثر الأحيان.

عملية الضبط والمراقبة من أعلى الهرم حتى قواعده، من رأس السلطة السياسية حتى البيت، آخذة بالتخلخل «افتراضياً»، فما لا يسمح للشاب أو الفتاة قوله ضمن مجتمعه، يقوله في عالمه الافتراضي عارياً من أي زينة.

ولا ننسى هنا أن كلفة خرق المحظورات عبر الإنترنت، أقل بكثير منها في العالم الواقعي، وعلى الصعيدين الاجتماعي والسياسي في آن، فلا معارك فعلية مع المحيط قد تؤدي إلى النبذ أوالحصار أوالسجن، مبدئياً على الأقل، فمحاولات الحجب والغربلة والمراقبة وحتى الاعتقال، لم تفلح أبداً في وقف المد الافتراضي وروّاده.

فهي تتسم في معظمها بالحدة في مجال التعليقات السياسية، ولا مجال للتفاصيل الصغيرة، ولا مكان لنقاش هادئ وعقلاني، والنتائج تبنى على النهايات لا على المقدمات، تتلمس رغبة عارمة في تحطيم الأوثان، لكن بعد صفعها، والإنترنت يختزل كل ما كان يمكن فعله وقوله عبر أحزاب ومنتديات وصحافة حرّة وحاكم من مرتبة البشر لا الآلهة، يختزله بمزيد من الانفعالية ومن دون رؤية واضحة، وليس ذنب الإنترنت أو الأجيال الناشئة، أنها مُنِعت من الكلام فتعلمت البصق، فهناك دائما شيء ما، يجب أن يقال في وجه أحد ما!

اجتماعياً، حديث أشمل وأكثر صدمة، الفتاة التابو، أصبحت في مكان آخر، والعلاقة المتوترة بينها وبين كل فرد في مجتمعها، اتخذت منحى آخر عبر العالم الافتراضي. ففي بعض مدارسنا الابتدائية، يعاقب الطفل أوالطفلة بوضعه أووضعها في مقعد واحد إلى جانب الجنس الآخر في حال ارتكب أوارتكبت ذنباً، وحين تكبر قد تُقتَل بدعوى «جريمة شرف» والمجتمع والقانون يهلّلان، وقد يحكم عليها بالجلد والسجن لأنها اغتُصِبت حين كانت مع غير محرم! وقد يعتبر دخولها إلى برلمان أو وزارة إهانة لرجولة زملائها، بينما تحيط المجتمعات نفسها بحزام «العفاف» والحفاظ عليه، وبينما ترتكب كل ما هو «غير طبيعي» في تعاملها مع المرأة تمييزاً وتهميشاً، وبينما تحكم العلاقات بين الجنسين بأشكال كل المحرمات، يتذمرون.

التذمر مما هو «غير طبيعي» في ما ينشأ على شبكة الإنترنت من علاقات بين الجنسين، من رغبات منفلتة يعبر عنها كتابة وصوراً، في محاولة لخلق عالم يناقض تماماً ما هو معاش.

ما نقوله إن مجتمعاً افتراضياً منفلتاً من كل قيد أوضبط، هو الصورة الحقيقية لمجتمع الأقفال والمفاتيح المرمية في البحر، وخرق المحظور إلكترونياً، هو في أحد أوجهه هروب من المواجهة العملية مع حراس المحظورات، وقد لا يؤدي بالضرورة إلى بناء منظومة جديدة من القيم والعلاقات أكثر انفتاحاً على الآخر واحتراماً له، لأن ما يحصل حتى الآن، هو أن المناضل الإلكتروني، يرخي عينيه إذا قابلتا عيوناً سلطوية. والمتحرر الاجتماعي الإلكتروني، لا ينسى الذود عن قائمة المحرمات في علاقته مع أخته أوقريبته، فالمسألة برمّتها، تعيدنا إلى النظر في واقعنا وكيف نعيشه، وليس في عالمنا الافتراضي وكيف نتجنبه، فالستار بات يكشف أكثر مما يخفي.

* كاتبة سورية

back to top