«قاعدة الأسد» مؤهلة لتلعب دوراً رئيسياً في إحكام السيطرة الأمنية على منطقة الأنبار، بعد أن تنجح هذه الخطة في إعادة تأهيل وتدريب وتزويد أهالي المنطقة بالأسلحة المطلوبة، وبعد أن تستكمل عملية «نقل البندقية الأميركية» من الكتف الشيعي إلى الكتف السني... هذه العملية ما زالت جارية على كل قدم وكل ساق، بعد أن اقنع عسكريو البنتاغون بوش بأن نقطة الانطلاق للخروج من الوحول العراقية تبدأ من هنا.وليام م. أركين كاتب أميركي له اختصاصات عديدة، منها شؤون الأمن الداخلي، والسياسة الوطنية (المحلية)، كتب معلقاً على زيارة الرئيس بوش لمنطقة الأنبار قائلاً «إن زيارة الثماني والأربعين ساعة المفاجئة التي قام بها بوش سيقرؤها العديد من العراقيين، وربما أكثر منهم في العالم الإسلامي، على أنها جزء من مؤامرة كبيرة هدفها خلق تحالف أميركي سني، يعيد الأقلية السنية إلى السلطة، وبالتالي يعيد الشيعة إلى ما كانوا عليه في السابق».
إن ما ذهب إليه المستر أركين أقل من نصف الحقيقة. ولكن، قبل الغوص في هذا الموضوع، لنتعرف على القاعدة العسكرية التي حطت بها طائرة الرئاسة الأميركية.
هذه القاعدة تدعى «قاعدة الأسد»، وهي موجودة على مبعدة نحو 200 كيلو متر إلا قليلاً شمال غرب بغداد. وبالتحديد تقع بالقرب من مدينة حديثة التي كانت ولا تزال تشكل العصب السني في منطقة «الأنبار» الصحراوية، الممتدة جغرافياً من تقاطع نهر الفرات في الرمادي إلى الحدود السورية والأردنية غرباً. ولقد اعتمدها نظام صدام كثاني أكبر مدينة سنية في المنطقة بعد بغداد.
خلية عسكرية نائمة
وفي الغزو الأميركي عام 2003، احتلتها القوات الأميركية، بمساعدة قوات خاصة أسترالية، في اليوم الأول لبدء عملية الغزو، وصادر نحو خمسين طائرة «ميغ» روسية الصنع تابعة للجيش النظامي العراقي. معظم هذه الطائرات كانت مدفونة تحت الرمال، وكانت الخطة العراقية العسكرية لنظام صدام تعتبر أن هدف الغزو هو الوصول إلى بغداد وتغيير النظام. وإذا حدث ذلك، فإن هذه القوة الجوية يمكن أن تصبح جسراً يمكّن السنة من الحفاظ على امتيازاتهم بعد ذهاب صدام. وعلى هذا الأساس بقيت القاعدة معزولة، في وسط الصحراء، تبعد عن الخط السريع الذي يربط بغداد بالأردن وبسورية نحو مئة كيلو متر ونيف. كذلك لم تسلط الأضواء عليها كبقية القواعد التي كانت تحت إشراف مسؤولية الحرس الجمهوري، حتى تبقى «خلية عسكرية» نائمة لاستخدامها وقت الحاجة. أما كيف سقطت «قاعدة الأسد» بسهولة في اليوم الأول للغزو، فلهذا قصة وتفاصيل لا مجال لذكرها الآن، تتعلق بدور لعبه الأردن، وعدد من المعارضين العراقيين لنظام صدام في ذلك الوقت.
حسب الخطة الأميركية، فإن هذه القاعدة مؤهلة لتلعب دوراً رئيسياً في إحكام السيطرة الأمنية على منطقة الأنبار، طبعاً بعد أن تنجح هذه الخطة في إعادة تأهيل وتدريب وتزويد أهالي المنطقة بالأسلحة المطلوبة، وبعد أن تستكمل عملية «نقل البندقية الأميركية» من الكتف الشيعي إلى الكتف السني... هذه العملية ما زالت جارية على كل قدم وكل ساق، بعد أن اقنع عسكريو البنتاغون بوش بأن نقطة الانطلاق للخروج من الوحول العراقية تبدأ من هنا. من الأنبار ومن «قاعدة الأسد» بالذات.
أسراب في موسم الصيد
بوش لم يختر النزول في هذه القاعدة الصحراوية لأسباب أمنية فقط، بعد أن تبين لقوات الاحتلال أن «المنطقة الخضراء» في قلب بغداد، والمناطق المحيطة بها، لم تعد سالمة وآمنة مئة في المئة، لا للسيارات المصفحة ولا لطائرات الهليكوبتر على مختلف أنواعها، ولا لمقاتلات وقاذفات القنابل.
فالمعلومات التي وصلت إلى قيادة الاحتلال لم تدع مجالاً للشك قي أن «المقاومتين» البعثية من جهة، وذات الارتباط الإيراني من جهة أخرى، تملكان صواريخ أرض جو، إذا لم تسقط الهدف الطائر، فإنها على الأقل تعرضه للخطر. ولهذه الأسباب، في إن قيادة الاحتلال العسكرية حددت شروطاً صعبة لاستخدام الطائرات. وكما قال واحد من المقاومين البعثيين، «فإننا لم نعد نرى أسراب طائرات الهليكوبتر تطير في سماء بغداد كسرب من البط في موسم الصيد».
قلنا إن الأسباب الأمنية لم تكن وحدها التي جعلت بوش يختار «قاعدة الأسد» الصحراوية لزيارة الـ 48 ساعة المفاجئة لميدان العراق. واستناداً إلى بعض المصادر الأميركية، ومصادر المقاومة العراقية، فإن هذه المصادر اتفقت على القول إن السبب الرئيسي لاختيار القاعدة الصحراوية هو الاجتماع بوجهاء وزعماء عشائر الأنبار الذين اثبتوا جدارتهم في تنظيف منطقتهم من بقايا تنظيم «القاعدة». لقد أراد الرئيس الأميركي أن يلتقي هؤلاء وجهاً لوجه وأن يتحدث إليهم، يستمع إلى وجهات نظرهم ومطالبهم كي يخرج بصورة واضحة لنفسه، لا يعتمد فيها على سفيره، ولا على قائد قواته وجنرالاته، ولا على العراقيين، أصحاب المصالح والمنافع الخاصة، في تصوير الأمور على غير حقيقتها، ثم إعطائه صورة وردية عن وضع لا يمت إلى لون الورد ولا إلى رائحته، بقدر ما يتصل بأشواكه.
نصف الحقيقة
بمعنى آخر، فإن بوش تعلّم وتعرّف وعانى المثل العربي القديم «المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين». لذلك وضع قيادته السياسية والعسكرية ومستشاريه جانباً وطار إلى «قاعدة الأسد»، واجتمع بالفعل وجهاً لوجه مع حلفائه الجدد من وجهاء وزعماء العشائر الأنبارية. والاجتماع دام ساعات عدة. والمعلومات القليلة المتسربة من هذا الاجتماع، استناداً إلى مصادر المقاومة العراقية، التي لا يزال خيط رفيع يربطها ببعض هؤلاء الوجهاء، تفيد بأن بوش طرح عليهم السؤال المثلّث الأطراف التالي: في حال تلبية طلباتكم كلها، ونحن قد بدأنا بذلك؛ هل تستطيعون السيطرة على مناطقكم مع وجود رمزي للقوات الأميركية تساعدكم عند الضرورة؟؛ وكم من الوقت يستغرق نجاحكم؟، بل كم من الوقت تطلبون؟
حسب المصادر ذاتها، فإن بوش لم ينس أن يذكّر ضيوفه بأنه يريد «إجابات واضحة وصريحة ومبنية على الواقع لا أكثر». تضيف المصادر ان الضيوف، في إجاباتهم على «السؤال المثلث» وما تبعه من أسئلة، كانوا أشبه «بأوركسترا شرقية»، كل يعزف على ليلاه، لكنهم، أي الضيوف، أجمعوا على القول «إن المساعدات المادية (سلاح ومال) لا تكفي وحدها لتحقيق الهدف المنشود، لأن المطلوب هو المساعدة السياسية التي تمثل ركيزة مهمة، والتي تنحصر بإعلان واشنطن عن رغبتها في الانسحاب من العراق من دون أي التباس أو إبهام، ثم يتبع ذلك وضع جدول زمني لهذا الانسحاب، ثم يبدأ الانسحاب عملياً ولو بشكل رمزي». تابع الضيوف ما معناه «إن حدوث ذلك، وفي وقت منظور، سيصبح عاملاً أساسياً في النجاح، إذا لم يكن هو وحده العامل الأساس. فنحن (أي الضيوف) لا يمكننا السيطرة على عشائرنا، وبالتالي على الجو السنّي العامّ بطول البلاد وعرضها في ظلّ احتلال مفتوح الآفاق».
قبل عشرة أيام من زيارة بوش المفاجئة إلى قلب الصحراء الغربية في العراق، قام سفيره وقائد قواته بلقاءات عدة مع حلفائهم الجدد، زعماء وشيوخ عشائر الأنبار، وسمعوا منهم مثل هذا الكلام. ومن المفروض أن يكونوا قد نقلوه إلى رئيسهم. والسؤال الآن هل خرج بوش من اجتماع «قاعدة الأسد» أكثر تفاؤلاً بالانتصار؟ إن تصريحاته لا تدل على ذلك، بل تشير إلى أنه بات أكثر ميلاً إلى تلبية القليل من شروط «الأنباريين» المتعلقة ببرمجة الانسحاب والبدء به بصورة رمزية. بوش لا يستطيع أن يفعل غير ذلك. فخياراته أصبحت محدودة وهو في سباق مع زمن التصادم المباشر مجدداً مع مجلسي النواب والشيوخ، ويأمل في أن يحمل بين يديه «هدية عراقية» يقدمها لهم، لعلها تخفف من غلوائهم وتمنحه مزيداً من الوقت الذي بات «عملة صعبة» هذه الأيام في العاصمة الأميركية.
* * * *
نعود الى ما كتبه «وليام أركين» في بداية هذا الكلام. إن نصف الحقيقة الآخر الذي لم يعرضه الكاتب الأميركي، أو ربما عرفه وتجاهله، هو أن السنّة (عشائر ووجهاء الأنبار) الذين تحدث عنهم، لا يمثلون الرأي السنّي كله، بقدر ما يمثلون آراءهم ومصالحهم الخاصة. وهؤلاء لا يحملون تكليفاً رسمياً من أحد يعتمد عليه. كما أن بعضهم، كما ألمحت في هذا المقال، يتحركون عبر خيط خفي تمسك المقاومة الوطنية بطرفه في الجانب الآخر.
* كاتب لبناني