Ad

هل ترانا، نحن المسلمين، نتوقف عن محاولات الإنقاذ والإصلاح في لحظة أبكر بكثير مما يفعلونه في الغرب، لأننا في لحظة يأس معينة نتصور خطأ أنه قد حان وقت تسليم الأمر ليد العناية الإلهية.

يواجه أغلب الأطباء في مسيرة حياتهم تجربة موت المريض أمامهم أو بين أيديهم. في تلك اللحظة، يقترب الطبيب من الموت أكثر من أي شخص آخر... يراه بارزاً عارياً في أدق تفاصيله... يلمسه أو يكاد... وأكاد أقسم أنه يشم رائحته، فللموت رائحة ثقيلة تتجاوز الأنف إلى خلايا المخ مباشرة.

من الأطباء من يبقى عاجزاً عن الانسجام مع هذه التجربة، ويظل يحاول أن يتحاشاها بقدر استطاعته، لكنني وبعكس كثير من زملائي، كنت أقترب من مشاهد الموت كثيراً، وكأني كنت أحاول فهم هذه الحقيقة واستجلاء سرها، لأنسجم معها فأتقبلها بنفسية مختلفة. وكثيرة هي اللحظات التي رأيت فيها الموت ماثلاً أمامي، في عالم الطب وخارجه، لكن موتاً واحداً لايزال الأكثر توقداً في داخلي، وكأنه شريط سينمائي لاينفك عن الدوران حتى إذا وصل الى نهايته عاد إلى المشهد الأول!

كنت في السنة التدريبية التي تلي التخرج من كلية الطب، وفي إحدى الليالي، أدخلت حالة طارئة لشاب من ضحايا حوادث السير إلى غرفة العمليات مصاباً بنزيف داخلي، واستدعي الجراح الاستشاري من بيته لصعوبة الحالة، وكنت أحد الحاضرين في غرفة العمليات. قام الجراح بعمل الشق الاستكشافي لبطن المريض كما يسمونه في الطب، وباشر بتفحص الأعضاء الداخلية بحثاً عن أماكن النزف، فوجد أن جزءاً كبيراً من الكبد قد تهتك، فما كان منه إلا أن شرع في استئصال الأجزاء النازفة قطعة وراء قطعة.

مر الوقت عصيباً والنزف يأبى أن يتوقف، وكلما استأصل الجراح قطعة من الكبد نزفت أخرى. وبعد محاولات مضنية عديدة، بدأت يد الجراح بالتباطؤ حتى توقفت. رفع رأسه وقال بصوت خافت: لا فائدة من الاستمرار، فالكبد قد تهتكت إلى حد أكبر من أي محاولة لإيقاف النزف!

وقفنا جميعا نشاهد الدم يتدفق نازفا بلا انقطاع، ولم يقطع الصمت الثقيل وبرود اللحظة سوى صوت الجراح حين طلب من مساعده أن يباشر بخياطة بطن المصاب، وبعد لحظات بدت وكأنها دهر، وقفنا فيها ننتظر النهاية، توقف القلب عن الخفق فأصدر الجهاز تلك الصفارة الرتيبة الحادة.

لم أكن بقادر يومها على أن أحكم إن كان قرار الجراح صائباً بالتوقف في تلك اللحظة بالذات أم لا، ولست كذلك اليوم بقادر على استرجاع كل الملابسات حتى أحاول أن أصدر حكماً ما، لكنني أعلم يقينا أن طب الطوارئ لمثل هذه الحالة كان أكثر تطوراً في الغرب منه عندنا، وأنه تطور أكثر بكثير منذ ذلك اليوم حتى الساعة.

هذه الحادثة أثارت في داخلي تساؤلاً شاغبني كثيراً، هل ترانا، نحن المسلمين، نتوقف عن محاولات الإنقاذ والإصلاح في لحظة أبكر بكثير مما يفعلونه في الغرب، لأننا في لحظة يأس معينة نتصور خطأ أنه قد حان وقت تسليم الأمر ليد العناية الإلهية، في حين أنهم لا يواجهون مثل هذا المفهوم لكفرهم به؟ وهل لهذا الفهم المضطرب لمعنى العناية الإلهية ومفهوم ما لا يحق تجاوزه دور في تخلف أمور كثيرة في عالمنا بالمقارنة مع الغرب، كطب الطوارئ مثلا؟ ربما!