عن رصاص الابتهاج
ممارسة الابتهاج بالقتل وشلالات الدماء من العزّل تبدو اختصاصاً لا تنفرد به «حماس»، بل هو سلوك شبه عام تتسم به الشعوب والمجموعات التي تخضع لغسل دماغ، أو التي يصل بها التدريب الأيديولوجي إلى درجة إلغاء المشاعر والآخر في آن.
ليس رصاص الابتهاج بقتل طلبة المدرسة اليهودية في القدس إلا تعبيراً يائساً عن جماعات وصلت بسياساتها إلى طريق مسدود، ووصل بها الفكر إلى أدنى الدركات.فرصاص غزة ومخيمات الفلسطينيين في لبنان ومناطق سيطرة «حزب الله» احتفاء بدخول مسلح إلى المعهد اليهودي في القدس الغربية وقتله ثمانية من ثمانين كانوا حاضرين ليس معبّراً عن نشوة انتصار عادية في معركة تخوضها قوى سياسية وعسكرية، بل عن لحظة سوداوية تتفجر فيها مظاهر دنيا، هي المعادل لفرحة تجميع أكبر عدد من آذان ورؤوس الخصوم التي كانت متبعة في غابر الأيام، أو نظير الرقص الوثني على الجثث، الذي مارسته البشرية على مدى آلاف السنين.لا يلغي ما قلناه حقيقة أن الهمجية الإسرائيلية في ممارسة القتل ضد غزة والفلسطينيين نوع من جرائم الحرب، لكن النقاش ليس في القتل والقتل المضاد، بل تحديداً في طقس الاحتفال بالموت الذاتي أو موت الآخرين.يفهم تماماً أن الصراعات في العالم والحروب هي بشاعات مهما أطلقت عليها من مسميات، لكن التجارب التاريخية للمجتمع الإنساني حققت نوعاً من الأعراف في التقاتل ونظمتها بمعاهدات جنيف، وجعلت مؤسسة العنف البشرية خاضعة لنوع من القوانين التي تعترف بالصراعات ولا تلغي إنسانية المنتصر ولا كرامة القتيل، فأين نحن من هذه الأعراف؟ وكيف لمجتمعاتنا أن تنظر بإعجاب إلى حفلات البهجة بالدم المراق وتشنيف الآذان بالرصاص لدى سماع هذا النوع من الأخبار؟ لن نعود كثيراً إلى الوراء، فنحن متفقون على الظلم التاريخي الذي ألحقته الصهيونية بالفلسطينيين. والعرب متفقون على المبادرة العربية لحل الصراع العربي-الإسرائيلي، لذلك فإننا نعود إلى الأمس القريب حين أدى انقلاب «حماس» على السلطة الفلسطينية في غزة إلى كارثة حلّت بالقطاع وإلى انسداد أفق الحل، وربط مصير سكانه بالمحور الإقليمي، بل تحويلهم إلى رأس جسر في طموحات هذا المحور بدلاً من بقاء شعلة نضالهم متوقدة لتحقيق المطلب الوطني الفلسطيني.على أي حال لم يكن بوسع سيطرة «حماس» على غزة إلا أن تنتج ما رأيناه، فمن ألقى مواطنيه المنتمين إلى حركة «فتح» من الطبقات العليا لينتصر على سلطة محمود عباس قادر على استدراج آلة القتل الإسرائيلية ليبني على الدماء مزيداً من الدماء. وهو ما حصل بالتحديد... والمؤسف هذا العجز عن التفريق بين العملية العسكرية المشروعة التي أودت بجندي إسرائيلي في غزة صباح يوم اقتحام المعهد اليهودي، ورصاص الابتهاج بالمقتلة الذي يستحق الإدانة على كل صعيد وبكل المعايير.وتكاد المسألة أن تكون مفهومة في حدود تاريخ العنف المتراكم في فلسطين وعقب محرقة غزة التي أودت بـ120 فلسطينياً ثلثهم من الأطفال، لولا أن ممارسة الابتهاج بالقتل وشلالات الدماء من العزّل تبدو اختصاصاً لا تنفرد به «حماس»، بل هو سلوك شبه عام تتسم به الشعوب والمجموعات التي تخضع لغسل دماغ، أو التي يصل بها التدريب الأيديولوجي إلى درجة إلغاء المشاعر والآخر في آن.ففي لبنان أيضاً تم توزيع الحلوى في بعض الأحياء فرحاً باغتيال الصحافي الشجاع والنائب جبران تويني. وفي البلد نفسه، وفي رد فعل فوري على جريمة اغتيال النائب وليد عيدو ونجله ومرافقيه، لم تتورع «زميلة» إعلامية في تلفزيون N.B.N التابع لرئيس مجلس النواب نبيه بري عن تمني الموت للوزير أحمد فتفت من غير أن تدري أنها كانت «على الهواء»... لم تكن إسرائيل هي من ارتكب الاغتيالين، ولم يكن مجرى النزاع يفترض هذا الكم من الحقد والعداء بل الرقص طرباً بسقوط اثنين من النواب.بعد كل ذلك لن يكون مستغرباً أن يطرح سؤال عن مدى قدرة العرب على الاندماج في ركب الحضارة، ومدى قابليتهم على فهم العصر بعيداً عن لغة تمجيد العنف وتقديس القتل والاقتتال... ذلك أن من يغض النظر عن طبيعة الخصم وظروف الصراع ولا يهتم لموازين القوى، معتبراً أن الحياة كلها طعن وطعان، يعيش خارج الزمن وخارج سياق ما توافقت عليه العقول، ولا يعدو أن يكون عبوة موقوتة قابلة للانفجار بالنفس والأهل، وقادرة على التفجير وليس على التحرير على الإطلاق.