Ad

مصر عارضت الاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية حتى عام 2005، وإذا بالموقف المصري ينهار فجأة وتقوم مصر بتنشيط التعاون الاقتصادي مع إسرائيل بالرغم من أنها مازالت تنتهج نفس السياسات ونفس المواقف الاستعمارية الإجرامية، ويعني ذلك أن مصر مررت سياسة «الاستسلام غير المشروط».

هدد بيان قمة دمشق بسحب المبادرة العربية إن لم تتعامل معها إسرائيل بجدية، وبالطبع لم ترتعد إسرائيل رعباً وخوفاً! فأولا لم يمر حتى هذا الجزء التائه من البيان من دون منازعة قوية داخل القمة وبدا أن تمريره تم بعد مباحثات على أعلى مستويات السلطة في عدد من الدول العربية المهمة وهو ما يعني أن بوسع إسرائيل عن طريق أميركا والغرب جعل هذا الجزء من البيان حبرا من ماء. ومن ناحية ثانية فهذا الجزء من البيان جاء عاما ومن دون أفق زمني بالرغم من أنه كتب بسبب عدم التزام إسرائيل بأفق زمني في تطبيق خريطة الطريق أو أي اتفاق آخر سابق. ومن ناحية ثالثة فإسرائيل تنعم فعلا بعلاقات مع عدد لا بأس به من الدول العربية من دون أن تقدم أي تنازلات للشعب الفلسطيني. وإن سارت الأمور على الوتيرة التي شهدناها خلال السنوات القليلة الماضية بوسع إسرائيل أن تطمئن تماما لأن هذه العلاقات ستتحول إلى سياسات ومواقف علنية ورسمية وأنها ستتسع وتشمل أغلبية الدول العربية!

ولكن لماذا يتكبدون حتى مجرد مشقة الانتظار أو بذل الضغوط لتحويل هذا الجزء من البيان إلى مجرد لغو غير مقصود؟ لقد حصلوا على ما هو أهم بكثير: أي حصلوا على صفقة الغاز وبدأ ضخه من مصر لإسرائيل قبل أسبوعين فقط من قمة دمشق!

ويبدو الأمر للمراقب الساذج وكأن مصر أرسلت تطمينات لإسرائيل قبل أن تتم حتى صياغة بيان قمة دمشق. ولكن الأمر لا علاقة له بقمة دمشق ولا بالبيانات والقرارات الميمونة، فإسرائيل تعلم تماما أن لا صلة في الثقافة السياسية الرسمية العربية بين الكلام والفعل أو بين البيانات والسياسات. وواقع الأمر أن التحضير لنقل الغاز المصري لإسرائيل كان يتم خلال الأعوام القليلة الماضية، ويعتقد أكثر المراقبين النفطيين أن إسرائيل حصلت على الغاز بأسعار مدعمة وتقل كثيرا عن الأسعار العالمية. وتقدم نواب كثيرون في مجلس الشعب المصري بطلبات إحاطة واستجوابات حول هذا الأمر... وردت الحكومة بكل بساطة أن هذا الاتفاق سري ولا يمكن الكشف عنه بذريعة أنه شأن من شؤون الأمن القومي.

وبوسعنا بالطبع أن نضم صفقة الغاز لصفقة النفط الأقدم بكثير المنصوص عليها في الاتفاقية المصرية الإسرائيلية لعام 1979 وتضمن لإسرائيل الإمداد بالنفط المصري من سيناء لندرك أن معظم مصادر الطاقة في إسرائيل مصرية المنشأ. أما إن شئنا فهم ما يجري أخيرا فقط فيجب أن نربط صفقة الغاز باتفاقية الكويز التي أجبرت أميركا مصر على توقيعها مع إسرائيل من أجل حصول المنسوجات المصرية على حق الدخول من دون جمارك للسوق الأميركية.

دلالات الصفقة

ولكن ذلك كله لا يضاعف فهمنا لما حدث، فالقضية ليست مجرد الانفصام بين البيانات والسياسات أو بين التهديدات الكلامية الجوفاء والمواقف والصفقات الفعلية، بل تبدو أهم من ذلك بكثير: تمكنت إسرائيل من فرض إرادتها على الدولة المصرية.

فالتفاوض حول صفقة الغاز المصري لإسرائيل كان قد بدأ في الحقيقة قبل انتفاضة الأقصى، وأطاحت الانتفاضة بهذا الملف من بين ملفات أخرى كثيرة مما اشتملت عليه المؤتمرات الاقتصادية للشرق الأوسط والتي كانت عقدت في الدار البيضاء والقاهرة والدوحة وعمان، وواقع الأمر أن مصر بدت «متعاونة» وإن «غير مرحبة» بهذه المؤتمرات الاقتصادية. فموقف مصر التقليدي منذ كامب ديفيد الأولى عام 1978 أنه يجب تسوية القضايا السياسية أولا قبل أن تتم إقامة علاقات اقتصادية أو ما يسمى بالتطبيع. موقف أميركا وإسرائيل كان على النقيض: أي الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها أولا ثم انتظار تسوية سياسية تأتي أو لا تأتي.

بل إن الانتفاضة لم تطح بالمؤتمرات الاقتصادية وفكرة التطبيع المبكر فحسب بل أعادت الصراع إلى مستواه الاستراتيجي، وتنطوي الانتفاضة على استراتيجية تحرير. وانتهجت إسرائيل بالمقابل استراتيجية فرض «الاستسلام غير المشروط» على الفلسطينيين، وحتمت هذه الاستراتيجية اتباع سياسة بالغة الوحشية ضد الفلسطينيين مع تغطيتها وتأمينها دبلوماسيا وسياسيا بنجاح من خلال إدارة بوش.

مصر عارضت هذه الاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية حتى عام 2005، وإذا بالموقف المصري ينهار فجأة وتقوم مصر بتنشيط التعاون الاقتصادي مع إسرائيل بالرغم من أنها مازالت تنتهج نفس السياسات ونفس المواقف الاستعمارية الإجرامية، ويعني ذلك أن مصر مررت سياسة «الاستسلام غير المشروط». والواقع أن قبول مصر مع السلطة الفلسطينية ومختلف الفاعلين العرب الكبار لصيغة مؤتمر أنابوليس ينسجم تماما مع هذا الواقع الجديد، وبتعبير آخر فالزعماء العرب جميعا وليس المصريين وحدهم ابتلعوا ومرروا من خلال أنابوليس انتصارا سياسيا كاملا لإسرائيل على الشعب الفلسطيني وبالطبع على العرب أجمعين وهو ما ترجمته إسرائيل بالتعامل بازدراء مع المبادرة العربية التي أطلقت في بيروت عام 2002. ولم تكن إسرائيل وحدها التي حققت نصراً سياسياً واستراتيجياً مهما بكسر الإرادة الفلسطينية والعربية بل أميركا أيضا. لا نشير هنا إلى الفلسفة الأميركية التي تعطي أسبقية للتطبيع على التسوية السياسية فحسب، بل نشير أساسا لطبيعة العلاقة بين أميركا وحلفائها في المنطقة، فأولا كسبت أميركا معركة إقناع حلفائها العرب أنهم مجتمعين لا يساوون شيئا بالمقارنة مع أهمية إسرائيل في السياسة الأميركية الداخلية والخارجية، وثانيا كسبت أميركا معركة إجبار الحكام العرب على فهم وقبول فكرة أن علاقتهم هم بإسرائيل هي العامل المحدد لعلاقاتهم بأميركا، ومن ناحية ثالثة فقد كسبت أيضا معركة فصم عرى العلاقة العضوية بين الدول والحكومات العربية مع الشعب الفلسطيني، وقد استمر وقوي التحالف بين الحكام العرب وأميركا بالرغم من فرض سياسة «الاستسلام غير المشروط» على الشعب الفلسطيني، بل أجبرت مصر ودول عربية أخرى على مكافأة العدوان الإسرائيلي الغاشم والمستمر ضد هذا الشعب الأعزل والمقاوم أبدا.

وفي هذا السياق يعجب المرء لأن القيادات العربية الكبرى فشلت في الاشتباك الإيجابي مع سورية حول قضايا الخلاف وبالتحديد في ما يتعلق بالقضية اللبنانية. فبينما كانت مواقفهم الناعمة من إسرائيل وأميركا علنية وقاسية على النفس العربية كانت مواقفهم المتشددة من سورية وبالتالي من حضور القمة أمرا مثيرا للحيرة والاستغراب. وكانت الحكمة تملي التشدد في مواجهة إسرائيل إن لم يكن لإجبارها على التعامل بجدية واهتمام مع المبادرة العربية ومع الالتزامات القانونية الدولية تجاه الشعب الفلسطيني، فعلى الأقل لاظهار شيء من التوازن والانسجام في الأداء السياسي عموما، وفي غيبة هذا الانسجام ظهر التناقض فاضحا بين مكافأة إسرائيل مقدما على جرائمها بحق الشعب الفلسطيني من ناحية والتهديدات الكلامية الجوفاء الموجهة لإسرائيل من ناحية ثانية وغياب أي موقف من الإدارة الأميركية الحالية خصوصا عزمها على مواصلة دعمها المطلق لإسرائيل من ناحية ثالثة.

* نائب رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام