لا يترك الدكتور فضل مبحثاً معروفاً في فقه الجهاد إلا ويناقشه تفصيلاً وبأدلة شرعية ومنطق متماسك مستخدماً عبارات واضحة لشرح النتيجة التي وصل إليها وهى أنه لا يجوز دفع المسلمين إلى مواجهة غير متكافئة لأن الحفاظ عليهم وعدم تعريضهم للمهالك هو الواجب الأهم طالما غلب على الظن أن المواجهة لن تؤدي إلى إظهار الدين.

Ad

ويذكّر الكاتب بأهمية الحكم الشرعي الشهير والوارد صراحة في آيات الذكر بنص قطعي الدلالة وهو جواز الانسحاب من المعارك في حال تغيير خطط المواجهة.

وتبدأ الحلقة الرابعة بشرح شرط آخر للجهاد الصحيح وهو موافقة الدائن وإذن الوالدين وهو ما يستدعى للذاكرة على الفور عشرات الشباب الذين سافروا من بلادهم للالتحاق بـ«القاعدة» ولم يعرف آباؤهم وأمهاتهم إلا عبر رسالة تبلغهم بحبر بارد بالقرار المصيري.

وفي ما يلي نص الحلقة الرابعة من الوثيقة:

رابعًا: ومن شروط وجوب الجهاد إذن الوالدين، وإذن الدائن بذلك

وهذا من باب تقديم الأهم عند تزاحم الواجبات فلا يجوز أن يخرج المسلم للجهاد إلا بإذن والديه، كما لا يجوز أن يخرج المسلم المدين للجهاد إلا بإذن الدائن، إلا أن يترك وفاءً أو كفيلاً بدينه، والشهادة في سبيل الله وإن كانت تكفر جميع الذنوب إلا أنها لا تكفر الدين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «يغفر الله للشهيد كل شيء إلا الدين» رواه مسلم، «إلا شهيد البحر» والله أعلم بالشهيد في سبيله، وأراد رجل أن يخرج في الجهاد فسأله النبي صلى الله عليه وسلم «أحي والداك؟» قال الرجل: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ففيهما فجاهد» متفق عليه، أي في خدمتهما وبرهما، وفي الديون قال النبي صلى الله عليه وسلم «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» رواه الترمذي وقال حديث حسن، ومات رجل وعليه دين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأخيه «إن أخاك محبوس بدينه فاقض عنه» حديث صحيح رواه أحمد وابن ماجة.

ومما يؤسف له أن نرى في هذا الزمان بعض المسلمين يخرج للجهاد ويسافر من بلده إلى غيره للمشاركة في الجهاد أو القيام بعملية استشهادية بدون إذن والديه وبدون علمهما، وأحيانًا بدون إذن دائنيه، وأحيانًا بدون أن يترك نفقة لمن يعولهم وكل هذه ذنوب يجب أن يتنزه المسلم عنها، وقد يموت أو يقتل في جهاده هذا فيموت بذنوب لا يدري أيغفرها الله له أم لا؟ فقد علق الله مغفرته على مشيئته «...ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء...» (النساء:48)، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله «إنما الأعمال بالخواتيم» ونحن لا نرضى بهذه المخالفات الشرعية وننهى عنها جميع المسلمين.

والفقهاء رحمهم الله وإن كانوا قد اتفقوا على أن إذن الوالدين إنما يشترط في الجهاد الكفائي، إلا أن بعض الفقهاء قد قال إن كان خروج المسلم لفرض العين من الجهاد فيه تضييع للوالدين أو أحدهما، لا يخرج لأن غيره يمكن أن يسد محله في الجهاد، وفي خروجه ضياع لوالديه أو هلاكهما، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان في التخلف عن بدر ليمرض زوجته رضى الله عنهما، والوالد أولى.

وقد ذكر الشافعي رحمه الله في كتابه «الأم»: «لا يجوز أن يخرج الرجل للجهاد وهو يخاف على أهله من العدو إذا خرج وتركهم» أ.هـ، وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم النساء في حصن بالمدينة في غزوة الأحزاب خوفًا عليهم من العدو المحاصر للمدينة، فكيف بمن يجاهد ولا يقوم بتأمين أهله وذريته، بل يتركهم عرضة لإيذاء الأعداء؟ ولا يعترض على هذا القول بحديث «إن الشيطان قد قعد لابن آدم بأطرقه» وهو حديث صحيح رواه أحمد والنسائي، وفيه أنه إذا أراد المسلم الجهاد وسوس له الشيطان ليثبطه بقوله «تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال» الحديث، فإن هذا استدلال بدليل في غير موضعه، والفرق ظاهر. وذات مرة انتدب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس للخروج إلى الجهاد فرأى منهم تأخرًا، فقال لهم «اخرجوا وأنا أبو العيال» فخرجوا. فيا أيها المسلم لا تسمح لأحد من الجُهال ومدمني الشعارات أن يستفزك للدخول في صدام أنت غير مؤهل له وغير قادر عليه باسم الجهاد ويتلو عليك نصوص الوعيد لمن ترك الجهاد، فإن هذا شيء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم عند عدم القدرة. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قبل الهجرة وفي وقت الاستضعاف يطلب النصرة ويقول «من ينصرني حتى أبلغ عن ربي»، وذلك عملاً بما أرشده الله إليه في قوله تعالى «وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا» (الإسراء:80)، هذا مع كونه صلى الله عليه وسلم مؤيدًا بالوحي عليه السلام. وكذلك الصحابة رضي الله عنهم من عجز منهم عن التجهز للجهاد ما زاد النبي صلى الله عليه وسلم على أن قال لهم -كما قال تعالى- «وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ» (التوبة:92). واعلم أن الله سبحانه قد رتب نظام هذه الدنيا على الأخذ بالأسباب لا على خوارق العادات والتي قد تقع ولكنها ليست هي الأصل، والأخذ بالأسباب ينفع ما لم يعارضها القدر.

خامسًا: المحافظة على ذات المسلمين وقوتهم من مقاصد الشريعة

المقصود من الجهاد إظهار الدين والتمكين لأهله كما قال تعالى «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (الأنفال:39)، ومن أجل هذا يبذل المسلمون أنفسهم، وكان حفظ الدين مقدمًا على حفظ النفس في الضرورات الشرعية الخمس، وإنما تبذل النفوس في الجهاد حين يغلب على الظن النصر وإظهار الدين، أما إذا غلب على الظن هلاك النفوس والإضرار بالمسلمين في ما لا يعود بإظهار الدين من مواجهات مع أعدائه فيجب والحال كذلك المحافظة على المسلمين ولا يجوز تعريضهم هم أو ذراريهم لمهالك يمكن اجتنابها، والأدلة على ذلك كثيرة منها:

المحافظة على نفوس المؤمنين

1) جواز كتمان الإيمان مثل «مؤمن آل فرعون» وجواز اعتزال الكفار كـ«أصحاب الكهف» في حالة الاستضعاف الشديد، وهذان الخياران ليس فيهما شيء من إظهار الدين للعجز عن ذلك، فكان الأولى المحافظة على نفوس المؤمنين، فأجاز الله كتمان الإيمان والتخفي به والعزلة قال الله تعالى «وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ...» (غافر:28)، فشهد الله له بأنه مؤمن بالرغم من كتمانه إيمانه. وقال تعالى «وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ...» (الكهف:16)، وبالرغم من أن هؤلاء اختاروا العزلة إذ لم يمكنهم مواجهة قومهم المخالفين لهم فقد أثنى الله عليهم ووصفهم بأنهم «... فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى» (الكهف:13). فالخيار المناسب هو بحسب الاستطاعة ولا إثم في ذلك.

2) إن الله سبحانه لم يوجب الجهاد ولا الولاء والبراء ولا تغيير المنكر باليد على المسلمين حال ضعفهم بمكة قبل الهجرة، لأن هذه الواجبات الثلاثة وإن كان فيها إظهار للدين فإنها كانت مضرة بهم ويمكن أن تزيد من إيذاء الكفار لهم، وكان المسلمون مستضعفين بمكة وفي حاجة إلى معونة أهاليهم المشركين في المعيشة والدفع عنهم، وحتى تحريم النكاح بين المسلمين والمشركين لم يشرع إلا بعد الهجرة وبعد صلح الحديبية كما في سورة الممتحنة في قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ...» (الممتحنة:10)، فحرم الزواج من المشركين. فلا يجوز القيام بهذه الواجبات الشرعية إذا عادت على المسلمين بالضرر، خاصة إذا كان لا يرجى منها إظهار الدين، وما غلب ضرره على نفعه فالصحيح منعه، والقاعدة «أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح». أما تحريم نكاح المشركين فثابت على كل حال إلا نكاح المسلم للكتابية.

3) إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الجهاد -بعد تشريعه- على من عجز عن الهجرة من المستضعفين بمكة إبقاءً على نفوسهم، ولم يوجبه كذلك على المهاجرين بالحبشة ولم يعودوا منها إلا عام فتح خبير (عام 7هـ) ولم يكن في جهاد هذين الفريقين مصلحة بل كان يضرهم فسقط عنهم، بل قد حض الله المسلمين على الجهاد لإنقاذ إخوانهم المستضعفين بمكة فقال تعالى «وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا» (النساء:75)، فالمستضعف يحتاج إلى من يجاهد لإنقاذه ونصرته لا أن يؤمر هو بالجهاد، وقد عذر الله هؤلاء في قوله تعالى «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا» (النساء:98، 99).

التخفيف من وجوب ثبات المسلم لعشرة من الكفار الى اثنين

4) عدم جواز الدفع بالمسلمين إلى مواجهة غير متكافئة مع أعدائهم إبقاء على المسلمين:

• ومن أجل هذا ورد التخفيف من وجوب ثبات المسلم لعشرة من الكفار إلى وجوب ثباته لاثنين كما في قوله تعالى «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا...» (الأنفال:66)، وإذا كان مقصود الجهاد مجرد الصدام مع الأعداء لما شرع هذا التخفيف، ولهذا قال ابن عباس رضى الله عنهما «من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما فر» وعمم بعض العلماء العلة في التخفيف (وهي الضعف) من العدد إلى العدة فقالوا بجواز فرار المسلم من الكافر إذا كان سلاح المسلم أضعف.

• وأجاز الله للمسلمين الفرار (الانحياز) من مواجهة أعدائهم لأجل التحرف للقتال (تغـيير الخطط) أو التحيز إلى فئة (الاستعانة بغيرهم من المسلمين) في قوله تعالى «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (الأنفال:16)، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من شفقته على المسلمين يقول «أنا فئة لكل مسلم» وكانت جيوشه تقاتل في بلاد فارس والروم وهو بالمدينة، لينحاز إليه من شاء، وحتى لا يتأثم مسلم من الفرار من مواجهة غير متكافئة مع العدو، وكان عمر رضي الله عنه من حرصه على المسلمين ينهى قادة جيوشه عن التسرع إلى القتال ويقول لهم «مسلم واحد أحب إلي من فتح مدينة من مدائن المشركين»، وقال عمر رضي الله عنه «وما يمنعني أن أؤمر سليطًا بن قيس إلا سرعته إلى القتال، فإن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث»، و(المكيث) هو المتأني، وكان «سليط» من أهل الخبرة بالحروب إلا أنه كانت فيه عجلة. نقلاً عن «العقد الفريد» لابن عبد ربه الأندلسي.

• ومن تجنب المواجهة غير المتكافئة مع العدو انحياز خالد بن الوليد رضي الله عنه بالجيش في غزوة «مؤت») وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه هذا فتحًا، وقال ابن حجر إن شراح الحديث استشكلوا كيف يكون الانسحاب فتحًا؟ وأن أفضل ما وقف عليه في ذلك هو ما ذكره ابن كثير في شرحه للبخاري رحمهم الله «إن الفتح كان إنقاذ جيش المسلمين من المهلكة أمام الروم» هذا حاصل كلامه من شرح كتاب المغازي بالبخاري، فكما أن النصر على العدو يسمى فتحًا، فكذلك عدم تعريض المسلمين للهلاك يسمى فتحًا أيضًا. فليس الصدام مع العدو هدفًا في ذاته بدون النظر في عواقبه، والانحياز هو الانسحاب في المصطلح المعاصر.

وفي غزوة مؤتة (عام 8هـ) بين المسلمين والروم كان عدد جيش المسلمين ثلاثة آلاف والروم مئتي ألف، ونصب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمراء على التوالي على المسلمين وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة، فقتل الثلاثة جميعا، فاختار المسلمون خالدًا أميرًا عليهم فقرر الانحياز (الانسحاب) واحتال في ذلك لينسحب بأقل الخسائر الممكنة. قال أنس بن مالك رضي الله عنه «نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء مؤتة وعيناه تذرفان فقال «أخذ الراية زيد فقتل، ثم أخذها جعفر فقتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقتل، ثم أخذها سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليه» الحديث متفق عليه، فسمى خالدًا سيف الله، وسمى صنيعه فتحًا.

جهاديون يخوضون مواجهات لا جدوى منها

فالمحافظة على المسلمين وعدم الدفع بهم إلى خوض ما لا يعود على الدين بنفع أو ظهور من المواجهات المهلكة واجب، وهو الصواب، وهذا حكم باق إلى آخر الزمان بدليل نهي الله للمسيح عليه السلام ومن معه عن قتال يأجوج ومأجوج، وإذا تأملت في هذا المعنى ونظرت في ما تخوضه الجماعات الجهادية في بعض البلدان من مواجهات لا جدوى منها بل المفسدة فيها غالبة محققة، أدركت خطأ ما هم عليه.

وفي حديث غزوة «مؤتة» دليل على أن اختيار المسلم للخيار الشرعي والقرار المناسب لواقعه وظروفه يسمى فتحًا، وإن كان هذا الخيار هو الانحياز وترك مواجهة العدو كما فعل خالد رضي الله عنه، وإن كان هذا الخيار هو الصلح مع العدو فقد سمى الله صلح الحديبية فتحًا في قوله تعالى «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا» (الفتح:1)، وقوله تعالى «... لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ...» (الحديد:10)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه «إنكم تعدون الفتح فتح مكة وإنما الفتح هو الحديبية».

وإذا كان الله سبحانه قد شرع الجهاد وأوجبه على المسلمين بعد الهجرة وتوفر شروط نجاح الجهاد، فإن الله سبحانه قد أباح للمسلمين أيضًا عقد الصلح والمعاهدات عند الحاجة إليها. وقام النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كله فحارب وعاهد وصالح وسكت عن قوم بلا صلح ولا عهد كل هذا لتحقيق مصلحة الإسلام والمسلمين. وقد قال تعالى «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (الأنفال:61)، فشرع الله ذلك للحاجة، أما النهي عن مسالمة الأعداء كالوارد في قوله تعالى «فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ...» (محمد:35)، فهذا النهي مقيد بصفة «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» أي في حال علو المسلمين وتمكنهم وقدرتهم على الحرب وغلبة الظن بالظفر لا يجوز مسالمة الأعداء لئلاً يفضي هذا إلى ترك الجهاد واستفحال خطر العدو، وهذا كله -وكما سبق- مع العلو والتمكين لا مع العجز والاستضعاف. وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة في الحديبية وتنازل للكفار في أمور لم يتحملها بعض الصحابة حتى قال عمر رضي الله عنه «ألسنا على الحق؟... أليسوا على الباطل؟... فلم نعطي الدنية في ديننا)؟ الحديث متفق عليه، وتنازل النبي صلى الله عليه وسلم بالرغم من أنه كانت له دولة مستقلة ومنعة ومعه جيش وبيعة على الموت (بيعة الرضوان) ومع كونه مؤيدًا بالوحي والملائكة عليهم السلام، ومع قوله صلى الله عليه وسلم -قبل ذلك عقب غزوة الأحزاب عام 4هـ- «لا تغزوكم قريش بعد اليوم ولكن تغزوهم». فكان النبي صلى الله عليه وسلم موفقًا في الحرب والسلم يضع كل منهما في موضعه تشريعًا منه للمسلمين. وهذا الصلح الذي ضاق به بعض الصحابة رضي الله عنهم سماه الله فتحًا -كما سبق- لما ترتب عليه من شيوع الأمن وانتشار دعوة الإسلام. وعلى العكس من ذلك هناك من تراهم فاشلين في الحرب وفي السلم على السواء.

جهاد المرتدين

وحتى مع المرتدين يتصرف المسلمون معهم بحسب قدرتهم ومصلحتهم، فقد خرج مسيلمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثم أرسل رسوله (ابن النواحة) إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسكت عنهم، ولم يقاتلهم المسلمون إلا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وإن كان قد قال «إن كفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي» في «مجموع الفتاوى ج28»، وقال أيضًا «إن المرتد لا يهادن ولا يقر على الردة بالجزية كالكافر الأصلي»، إلا أن هذا كله عند قدرة المسلمين وعلوهم وتمكنهم من جهاد المرتدين. أما مع ضعف حال المسلمين فقد قال محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله وذلك من قبل ابن تيمية بخمسمئة سنة في كتابه «السير الكبير»: «يجوز أن يدفع المسلمون للمرتدين مالاً ليكفوا أذاهم عنهم في حال ضعف المسلمين»، وهذه هي الجزية المنعكسة. وقد عاش ابن تيمية في القرن السابع الهجري وتوفي عام 728هـ، والشيباني في القرن الثاني الهجري وتوفي عام 189هـ رحمهما الله.

فالمحافظة على ذات المسلمين وقوتهم وعدم تعريضهم للمهالك من غير طائل مقصد شرعي معتبر ينبغي مراعاته في كل من الحرب أو السلم على السواء وقد تعاضدت على ذلك الأدلة الصحيحة.