Ad

رداً على اعتراض أحد الكتاب على مقال أرحب فيه بافتتاح كنائس في قطر أود أن أقول لكاتبنا: ما هكذا دعانا القرآن للحوار مع الآخر، لقد أمرنا بأدب الحوار والتلطّف في الألفاظ «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن»، كما أمرنا بحسن القول «وقولوا للناس حسنا».

في مقالة سابقة، رحبت بقرب افتتاح أول كنسية كاثوليكية في قطر ضمن مجمع الكنائس الجاري بناؤه، ويبدو أن ذلك أثار أحد الكتاب القطريين الذي كتب مقالاً في صحيفة «العرب» القطرية مستنكراً بناء «كنائس في قطر».

نحن نحترم وجهة نظر الكاتب ونتفهم اعتراضه ونرجو أن يتسع صدره لملاحظاتنا:

1 - لا خلاف على حق الكاتب في التعبير عن رأيه الرافض، فنحن من أنصار حرية التعبير والنقد وقطر تفسح المجال للحريات الإعلامية للجميع، لكن لحرية التعبير ضوابطها التي تحول دون الإساءة للآخرين، وهذا ما لم يراعه الكاتب الفاضل، إذ كتب مقالاً يفيض ازدراء وسخرية، بدأه بقوله «أعتذر للقارئ عما قد يثيره عنوان المقال -كنائس في قطر- من الاشمئزاز في نفسه كالذي أثاره في نفسي»، ثم ختمه بقوله: «صعب أن يتلطخ ثوب قطر بهذه الكنيسة». بناء دار للعبادة أصبح مثار اشمئزاز وتلطيخ، هل يتصور هذا؟! وهل يبلغ التعصب درجة احتقار مقدسات الآخرين؟ ألم يتساءل الكاتب: ماذا لو استخدم الآخرون نفس أوصافه وألفاظه في وصف مقدساته، وما شعوره؟!

أود أن أقول لكاتبنا المشمئز... ما هكذا دعانا القرآن للحوار مع الآخر، لقد أمرنا بأدب الحوار والتلطّف في الألفاظ «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن» فضلاً عن مخالفته منهج الدعوة «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» كما أمرنا بحسن القول «وقولوا للناس حسنا» والرسول صلى الله عليه وسلم عامل أهل الكتاب بأحسن معاملة، فقد استقبل رسولنا العظيم وفد نجران في مسجده وسمح لهم بالصلاة فيه، وكتب لهم كتاباً، يقول فيه «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي إلى الأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم وأهل بيعهم -كنائسهم- وملتهم، وعلى كل ما تحت أيديهم، لهم جوار الله ورسوله، لا يغير أسقف من أسقفته ولا راهب من رهبانيته، ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم...) أقرهم الرسول على كنائسهم فكيف نأتي اليوم لنقول إنه عمل مشمئز؟!

وأود أن أذكّر الكاتب الفاضل بأن المقال بمنزلة «أذى» للآخرين، وقد قال الرسول «من آذى ذميا فأنا خصيمه يوم القيامة» ولا يقتصر على الأذى المادي بل ينسحب أيضا إلى «الأذى المعنوي» الذي يقوم على احترام مشاعر وكرامة الآخرين. لقد وصف القرآن علاقة المسلمين بغيرهم بـ«البِرّ» وهو أقصى درجات حسن الخلق، وهو يرد في القرآن وصفاً للعلاقة بالوالدين بما تشمله من الرحمة والاحترام وحسن المعاملة فهل من البِرّ اعتبار بناء كنيسة أمراً مشمئزاً يلطخ ثوب قطر الناصع؟!

هذا الأسلوب التجريحي لا يتفق وعدالة الإسلام «ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا» فضلاً عن سماحته... كيف تصف إقامة دار للعبادة لما يقرب من «100» ألف مسيحي في قطر بأنها شيء يثير الاشمئزاز؟ ألم تسمع بتفسير بعض كبار المفسرين مثل الكلبي ومقاتل والرازي حين تساءلوا في قوله تعالى: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا»، هل هو مختص بالمساجد أو عائد على الكل؟ قالوا: عائد على الكل -أي الصوامع والبيع والصلوات والمساجد- لأن الله تعالى يذكر في هذه المواضع. إذن علينا احترامها وعدم وصفها بما لا يليق من الأوصاف غير اللائقة... لو كان الأمر كما تقول، فلماذا لم يشمئز سيدنا عمر رضي الله عنه، وهو أمير المؤمنين، عندما جاء إلى بيت المقدس لعقد صلح فرأى بناء بارزاً علاه التراب فسأل ما هذا؟ قالوا هيكل لليهود طمسه الرومان بالتراب، فأخذ بالتراب بفضل ثوبه وتبعه الجيش المسلم حتى ظهر الهيكل كاملاً ليتعبد فيه اليهود؟ هكذا كان يعامل قادة المسلمين أهل الذمة ويحترمون أماكن عباداتهم، وقد جاء في عهد عمر لأهل بيت المقدس أنه أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم لا يهدم ولا ينتقص منها وحين دخل الفاروق كنيسة القيامة وحان وقت الصلاة، صلى خارجها، وقال:

«خشيت إن صليت في الكنيسة أن يقول المسلمون، هنا صلى عمر ثم يتّخذونها مسجداً». هكذا حمى الإسلام حرية العقيدة وأيضاً-العبادة- وأقرّ إقامة معابدها.

2 - لم يلتفت الكاتب الفاضل باعتراضه على الكنائس إنما أيضاً- خوّفنا بما يستوجب نزول «نقم الله» علينا لأننا خالفنا أمر الرسول بالسماح بالكنائس في قطر، يا أخي: هوناً على نفسك وبنا. من أين لك أن بناء الكنائس مخالف لتعاليم الرسول؟! لا نجد في النصوص القرآنية والنبوية ما يمنع غير المسلمين من أهل الديانات من ممارسة شعائرهم في أماكن للعبادة خاصة بهم، بل إن القرآن يعترف بأصحاب الديانات وأمرنا بحسن معاملتهم، وهذا بمنزلة دعوة ضمنية لاحترام حقهم في أداء شعائرهم وإقامة معابدهم «وقد أراك مستنكراً قولي هذا ومحتجاً باجتهادات فقهية ماضية وممارسات تاريخية قديمة، فدعني أوضح لك أن تلك الاجتهادات وكذلك الممارسات مما لا يجوز التمسّك بها في يومنا هذا لأنها محكومة بأزمانها ومجتمعاتها وظروفها السياسية والاجتماعية، ولا ينبغي -أخي الكريم_ أن نبقى أسرى لتلك الاجتهادات والممارسات لأنها لا تحقق أي مصلحة للإسلام والمسلمين، ولأنها لا تشكل «ثوابت الدين» مطلقاً بل هي من قسم «المتغيرات» التي مجالها «السياسة الشرعية». والمرتبطة بالمصالح العامة والموكّل في تقديرها «ولي الأمر» ولذلك لا سبب يستوجب نزول النقمة علينا لأننا لم نخالف أمراًَ للرسول بل خالفنا اجتهادات فقهية انتهت صلاحياتها في عصرنا، ورأيتك -أخي الفاضل- تغمز في جانب الدول المجاورة فتقول «لا يبرر وجود كنائس في دول مجاورة أن نوافق على إنشائها عندنا، فالحديث يقول: لا يكن أحدكم إمّعة...» وأريد أن أهمس لك بأمرين: الدول الأخرى لم تخالف تعاليم الإسلام، إذ سمحت بالكنائس بل أظهرت سماحة وعدالة الإسلام، وما أقدمت على ذلك إلا بعد مشاورة كبار العلماء. وقطر إذ تسمح بها فانطلاقا من موقف مبدئي عقلاني يلتزم بمواثيق الإنسان وترجمة لنص دستورها -حرية العبادة مكفولة للجميع- وتحقيقاً للمصالح العامة.

* عميد كلية الشريعة السابق في جامعة قطر- بالمشاركة مع «الوطن» القطرية