ولد الأمير «سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدون التغلبي» في (303هـ = 915م) في مدينة ميافارقين -أشهر مدن ديار بكر- على إثر تولي أبيه إمارة الموصل، وقد عُني أبوه بتعليمه وتنشئته على الفروسية منذ نعومة أظفاره، وأظهر سيف الدولة استعدادا كبيرا ومهارة فائقة في القنص والرمي وركوب الخيل منذ صغره.

Ad

ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى صار فارسا لا يُشَقّ له غبار، وخاض العديد من المعارك الطاحنة ضد أعداء الدولة والمتمردين عليها؛ سواء في الداخل أو في الخارج.

واستطاع الأمير الشاب أن يحقق انتصارا عظيما على البريدين، الذين اقتحموا بغداد عام (330هـ = 942م) ودفعوا الخليفة العباسي المتقي لله إلى الخروج منها، واللجوء إلى الموصل للاستنجاد بالحمدانيين، فلما حقّق الأمير الشاب «علي بن أبي الهيجاء» النصر على البريدين بعد أن تعقبهم إلى المدائن، أنعم عليه الخليفة بلقب «سيف الدولة»، وأمر أن تُضرب باسمه الدنانير والدراهم، وبدأ نجم سيف الدولة يعلو ويسطع منذ ذلك الحين؛ فحقق المزيد من الانتصارات على الروم والبيزنطيين، واستطاع أن يصدّ هجماتهم، كما تمكن من المحافظة على حدود الدولة الإسلامية ضد غاراتهم، واستطاع أن يتوغل داخل حدود الدولة البيزنطية.

وقد عُني سيف الدولة بتسليح جيشه في مواجهة استعدادات الجيش البيزنطي العسكرية القوية وتنظيمه الجيد، وتنوع تسليحه، فاتجه إلى توفير المال اللازم لتجهيز الجيش وتسليح الجنود، واهتم بتدريب رجاله وتربية جنوده تربية عسكرية صارمة. واتخذ سيف الدولة مدينة حلب مركزا ليبدأ منها مرحلة جديدة من حياته؛ حيث أعلن إمارته على مناطق حلب والجزيرة الفراتية وإقليم الثغور والعواصم، وبدأ يدخل في مرحلة جديدة من الصراع مع الروم البيزنطيين والحروب الطاحنة معهم، واستطاع خلالها أن يحقق عدة انتصارات عليهم، ووجه إليهم العديد من الضربات المتلاحقة الموجعة، وألحق بهم سلسلة من الهزائم المتتالية.

وقد أثارت انتصارات سيف الدولة على الروم البيزنطيين حفيظة الذين وجدوا عليه تلك البطولات والأمجاد، وخشوا من تعاظم نفوذه وقوة شوكته؛ فتحركوا لقتاله، ولكنهم ما لبثوا أن آثروا الصلح معه بعد أن لمسوا قوته وبأسه.

وبدأ الروم البيزنطيون يعيدون ترتيب صفوفهم وتنظيم قوتهم، وراحوا يهاجمون الثغور العربية في سنة (336هـ = 947م)، ولكن الأمير سيف الدولة الحمداني تصدّى لهم وتعقبهم، وجدد البيزنطيون هجماتهم مرة أخرى بعد عام، فتعقبهم سيف الدولة، وقتل منهم عددا كبيرا.

 

طابع حضاري

 

البداية الحقيقية لظهور الحمدانيين على مسرح الأحداث ترجع إلى مؤسس هذه الأسرة «حمدان بن حمدون التغلبي» صاحب قلعة ماردين القريبة من «الموصل»، وذلك عندما خاض حمدون على رأس جنوده عدة معارك قوية ضد الروم، إلا أن بداية علاقتهم الفعلية بالعباسيين لم تتحدد إلا بعد عام (272هـ =885م)، عندما تحالف مع هارون الشاري الخارجي، واستطاعا غزو الموصل والاستيلاء عليها، وقد أدى ذلك إلى ثورة الخليفة العباسي المعتضد وغضبه، فقبض عليه وحبسه.

ومع استفحال أمر الشاري ظلّ الخليفة يفكر في وسيلة للقضاء عليه، ووجدها الحسين بن حمدان فرصة لإظهار قدراته واكتساب ثقة الخليفة وإطلاق سراح أبيه من الحبس، واستطاع الحسين هزيمة الشاري بعد معركة قوية، وأسره وقدّمه إلى الخليفة يرسف في أغلاله؛ فسر الخليفة بذلك، وأطلق سراح أبيه، وبدأ مرحلة جديدة من التعاون مع بني حمدان؛ فاستعان بهم في محاربة القرامطة والتصدي لخطرهم، كما وجههم إلى العديد من الفتوحات في فارس ومصر والمغرب.

وهكذا استطاع الحمدانيون الوصول إلى أخطر المراكز، وتقلدوا أعلى المناصب، وشاركوا مشاركة فعلية في الحياة السياسية في بغداد لفترة غير قصيرة، واستطاعت الأسرة الحمدانية أن توثق صلاتها بالعباسيين، وأخذ نفوذهم يزداد، وتوغلوا في جميع مرافق الدولة، بالرغم من الدسائس والمؤامرات المستمرة التي ظلت تحاك ضدهم من بعض العناصر غير العربية في بلاط العباسيين، وبرز عدد كبير من أبناء هذه الأسرة، كان في مقدمتهم الأمير سيف الدولة الحمداني.

وبالرغم من الطابع العسكري والحربي لدولة الحمدانيين بصفة عامة، وإمارة سيف الدولة على نحو خاص، فإن ذلك لم يصرف الأمير سيف الدولة عن الاهتمام بالجوانب الحضارية والعمرانية.

فقد شيّد سيف الدولة قصره الشهير بـ«قصر الحلبة» على سفح جبل الجوشن، وتميز بروعة بنائه وفخامته وجمال نقوشه وزخارفه، وكان آية من آيات الفن المعماري البديع، كما شيّد العديد من المساجد، واهتم ببناء الحصون المنيعة والقلاع القوية.

وشهدت الحياة الاقتصادية ازدهارا ملحوظا في العديد من المجالات؛ فمن ناحية الزراعة كثرت المزروعات، وتنوعت المحاصيل من الحبوب والفاكهة والثمار والأزهار، فظهر البُرّ والشعير والذرة والأرز والبسلة وغيرها. كما ظهرت أنواع عديدة من الفاكهة كالتين والعنب والرمان والبرقوق والمشمش والخوخ والتوت والتفاح والجوز والبندق والحمضيات. ومن الرياحين والأزهار والورد والآس والنرجس والبنفسج والياسمين. كما جادت زراعة الأقطان والزيتون والنخيل. وظهرت صناعات عديدة على تلك المزروعات، مثل: الزيتون، والزبيب، كما ظهرت صناعات أخرى كالحديد والرخام والصابون والكبريت والزجاج والسيوف والميناء.

ونشطت التجارة، وظهر العديد من المراكز التجارية المهمة في حلب والموصل والرقة وحران وغيرها.

وشهدت الحياة الفكرية والثقافية نهضة كبيرة ونشاطا ملحوظا في ظل الحمدانيين؛ فظهر الكثير من العلماء والأطباء والفقهاء والفلاسفة والأدباء والشعراء.

وكان سيف الدولة يهتم كثيرا بالجوانب العلمية والحضارية في دولته، وظهر في عصره عدد من الأطباء المشهورين، مثل عيسى الرَّقي المعروف بالتفليسي، وأبو الحسين بن كشكرايا، كما ظهر ابو بكر الرازي الذي كان أعظم أطباء الإسلام وأكثرهم شهرة وإنتاجا، ولم يلبث سيف الدولة أن عاجله المرض، ثم تُوفي في (25 من صفر 356هـ = 10 من فبراير 966م)، وقيل في رمضان، وهو في الثالثة والخمسين من عمره.