الكنز المنسي

نشر في 06-11-2007
آخر تحديث 06-11-2007 | 00:00
 د. عمار علي حسن

هناك من توقع تراجع الطرق الصوفية أو اندثارها في المستقبل، لكن يبدو أن الحقيقة تسير عكس هذه التوقعات، فطوال القرن العشرين سارت الصوفية في اتجاه مخالف للرسم البياني الذي بشر به بعض الباحثين، واستطاعت أن تضم بين مريديها بعض الفئات المحدثة، فباتت ظاهرة أولى بالدراسة العلمية الجادة، التي يمكن أن تخرج لنا بعشرات الرؤى والأفكار العميقة والنظريات الاجتماعية المهمة.

قبل عشر سنوات قابلت في القاهرة باحثة أميركية تعد رسالة للدكتوراه عن ظاهرة «موائد الرحمن» الرمضانية، وقبل عشرة أشهر تعرفت على باحث فرنسي يعد أطروحة مماثلة عن «الحدائق العامة في القاهرة»، وعلى مدار مسيرتي العلمية والبحثية طالعت العديد من الدراسات التي تهتم بظواهر وأشكال اجتماعية صغيرة، وتخرج منها بنتائج غاية في الدقة والرصانة، وتذكرت في كل هذا ما تعلمناه من أساتذتنا الكبار من أن النظريات الكبرى خرجت من رحم التجارب الحياتية أو الميدانية الصغيرة.

وحلت كل هذه المعاني في رأسي مرة واحدة وأنا أتابع ما تتناقله صحف القاهرة هذه الأيام عن قيام السفير الأميركي في مصر بالذهاب سنوياً إلى مولد أحد أقطاب الصوفية، وهو «السيد أحمد البدوي»، الذي يقام في مدينة طنطا بقلب الدلتا، وقلت إن السفير الأميركي يريد أمرين؛ الأول، هو التقرب إلى المصريين في إطار سياسة تحسين صورة أميركا، والثاني، هو اختبار الاستراتيجية الأميركية التي تريد أن تعتمد التصوف طريقاً للإسلام بديلاً عن التنظيمات والجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، استناداً إلى قدرة الصوفية التركية على استيعاب قيم الحداثة والعلمانية.

لكن برق في خاطري أمر مهم على ضفاف هذا التحليل السياسي السريع، وهو سؤال عما فعلنا نحن في معاهدنا وجامعاتنا لدراسة تجربة «التصوف» من الناحيتين الاجتماعية والسياسية، بعد أن أضحت الطرق الصوفية ظاهرة اجتماعية لا يمكن إهمالها، وقلت في نفسي: برغم اهتمام الأدباء والفلاسفة بالصوفية والمتصوفة، فإن حقل الدراسات الاجتماعية، ومنها السياسية، لايزال يحتاج إلى بذل جهد أكثر لوضع هذه الظاهرة تحت مجهر البحث.

عندها دار سؤال آخر في ذهني مفاده: أي المداخل والاقترابات العلمية يمكن التعامل بها مع الصوفية، بعد أن فارقت صوامعها وأصبحت ظاهرة اجتماعية أقرب في كثير من الأحيان إلى «الفولكلور» منها إلى الدين؟ ووجدت إجابات عديدة؛ إذ يمكن دراسة الطرق الصوفية كأحد روافد التيار الإسلامي، على اعتبار أن المتصوفين ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية مثل مختلف الجماعات التي ترفع الإسلام شعاراً سياسياً لها، ويمكن دراستها على الوجه الآخر كتنظيم مضاد للحركة الإسلامية الراديكالية من منطلق رفضها لأطروحات الراديكاليين، بل ووصفها بالتطرف ونعتها بالإرهاب، كما يمكن دراسة الطرق الصوفية كظاهرة اجتماعية من حيث ولادتها وانتشارها ومدى انحسارها أو اتساعها ومعدل الحراك والتغير في رموزها ومدى علاقتها بالسلطة على مر الأيام، ومن حيث أدوات المتصوفة في تثبيت دعائم شرعيتهم والطرق الصوفية كظاهرة عابرة لحدود الدولة القومية وكإحدى مؤسسات المجتمع المدني، وكذلك الدور الذي تلعبه في مصلحة النظم الحاكمة حين تستخدم الدين مطية لكسب الشرعية أو تعزيزها.

وفي إطار الدراسات التي تسعى إلى تفسير ظاهرة «الاستبداد»، على سبيل المثال، إما عبر «نمط الإنتاج الآسيوي ومجتمع النهر»، وإما «الفرعونية السياسية»، يمكن إدخال الطرق الصوفية كأحد العناصر التي أسهمت في تكريس هذا الاستبداد على اعتبار أن الطرق الصوفية ارتبطت في الغالب الأعم بالسلطان، ولاقت تشجيعه ومباركته لتثبيت شرعيته أو مواجهة حركات إسلامية أخرى. فبرغم احتواء الصوفية، في فكرها وممارستها، على قيم إيجابية مثل التسامح والانتماء، فإنها اتسمت في بنيتها الداخلية بالقهر سواء في تنظيماتها المحكمة أو قوانينها الصارمة أو علاقة الشيخ بالمريدين ومدى ما يمثله من كاريزمية، وكونه يستمد شرعيته من أسطورة الكرامة أو طهر النسب «الانتماء للأشراف».

وكل هذه الدراسات يجب أن تقوم على إعادة النظر في «الطرق الصوفية» خارج «الاعتقاد والتقديس»، بمعنى أنها لم تعد شيئاً مقدساً، وإنما ظاهرة اجتماعية شعبية حتى ولو أطلق عليها «دين الحرافيش» أو «الدين الشعبي» مثلما يحلو لبعضهم أن يصفها. وهذا التقييم الجديد للطرق الصوفية لابد أن يقوم على الدراسة المتعمقة والبحث الجاد انطلاقاً من شيئين رئيسين: الأول، هو ارتباط الطرق الصوفية بالمزاج الديني العام وكون التربة الاجتماعية في مصر والمغرب على وجه التحديد مهيأة إلى حد كبير لتقبلها. والثاني، هو الانتفاع المادي لأرباب التصوف من أسر المشايخ والقائمين على الأضرحة، وهو الأمر الذي وصل إلى حد ادعاء بعضهم بوجود مقابر للأولياء في أماكن معينة من أجل استغلال الميل الديني لدى الناس في حثهم على دفع النذور والصدقات.

إن هناك من توقع تراجع الطرق الصوفية أو اندثارها في المستقبل ويستندون في ذلك إلى ثلاثة عوامل: أولها، موجة التحديث التي تتسرب رويداً رويداً إلى عقل المجتمع العربي والتي ستضع ظاهرة تقليدية مثل «الطرقية» في موقف حرج. وثانيها، ظهور وترعرع أشكال أخرى للتدين تتمثل في جماعات شتى تتسطر فوق الخريطة العربية راحت تزاحم الصوفية، تنتقدها أحياناً وتجلدها أحياناً وتضربها في مقتل اعتقادها الخاص بكرامات الأولياء والتضرع للأضرحة. وثالثها، غياب الهدف السياسي الواضح للصوفية بينما تمتلكه القوى الإسلامية الأخرى. لكن يبدو أن الحقيقة تسير عكس هذه التوقعات فطوال القرن العشرين سارت الصوفية في اتجاه مخالف للرسم البياني الذي بشر به بعض الباحثين، واستطاعت أن تضم بين مريديها بعض الفئات المحدثة، فباتت ظاهرة أولى بالدراسة العلمية الجادة، التي يمكن أن تخرج لنا بعشرات الرؤى والأفكار العميقة والنظريات الاجتماعية المهمة.

* كاتب وباحث مصري

back to top