الفتاوى الدينية في خدمة الصراع السياسي
على مجتمعاتنا تحمل مسؤولياتها في التفكير في شؤونها كما تفعل جميع شعوب الأرض، وعليها الكف عن اللجوء إلى الفتاوى إلا في العبادات، فالإسلام جعل ضمير المسلم هو المفتي، فقال «استفت قلبك»، وتبين الحرام «والإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس» وقال «أنتم أعلم بأمور دنياكم» أي من المفتي.
يتعاظم الدور السلبي الذي يؤديه جانب كبير من الفتاوى الدينية في حياتنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة، ولا يقتصر هذا الدور السلبي على بث ثقافة «التخويف» واستدامة «التجهم» ونشر مظاهر «الكآبة» ومحاربة «البهجة» وقتل «الفرح» وتضييق أبواب الرجاء والأمل في القلوب والنفوس عبر الإكثار من فتاوى التشدد والتحريم والتنفير والتضييق على الناس بالتحذير من الفتن وعلامات الساعة، مما حوّل حياة المسلمين إلى حالة من البؤس والشقاء وكراهية الحياة، إذ أصبحت الحياة «سجناً» يود المسلم الفرار منها سراعاً إلى الجنة وحورها.لقد تجاوزت تلك الفتاوى حالة «التيئيس» إلى ما هو أخطر وأكثر دمارا، إذ أصبحت الفتاوى المحرضة هي المسؤول الأول بعد الإعلام «الجهادي» والمواقع الإلكترونية المتطرفة عن ترويج ثقافة «الانتحار» وتفجير «الذات» وإعلاء قيمة «الموت» وترخيص قيمة «الحياة»، تلك الفتاوى هي التي زينت فكر «العدم» والحلول الصدامية مع الآخر وسرقت أولادنا من أحضان أسرهم ومن مدارسهم ومن أعمالهم ومجتمعاتهم ودفعتهم إلى ميادين الهلاك.الفتاوى المتشددة التي حرَّمت كثيرا مما أباحه الله لعباده من النعم والمتع والزينة والمعاملات والتصرفات، من جهة، والفتاوى المحرّضة التي دفعت الشباب إلى الهلاك من جهة أخرى، جعلت من شبابنا إما «سوبر ستار» أو «سوبر انتحار» حتى فاق شبابنا شباب العالم جميعاً في الميدانين! حتى يكاد يندر حصول أي عمل إرهابي في أي بقعة من المعمورة إلا تجد بعض شبابنا هناك!!والمصيبة أنهم يتفاخرون بعملهم الإجرامي وينسبونه إلى الإسلام وبأنه جهاد ضد السياسة الظالمة التي تمارس ضد المسلمين!! كما في عملية فرانكفورت التي كانت ستنفذ بمناسبة الذكرى السادسة لاعتداءات «11» سبتمبر لولا يقظة رجال الأمن. نعم نجحت الفتاوى المحرّضة والفتاوى ذات الشحن الطائفي في تجنيد شباب العالم الإسلامي في خلايا إرهابية لبث الذعر والخوف في المجتمعات، وذلك عبر تصوير الصراعات الإقليمية في مناطق التوتر على أنها أرض جهاد حقيقية على المسلم أن يضحي بنفسه فيها. تلك الفتاوى هي التي دفعت الفتية الذين ذهبوا وتحصنوا في مخيم «نهر البارد» لمقاتلة الجيش اللبناني!! وهي التي حرضت الطالب الجزائري الذي لم يكمل «15» عاماً، ففجر نفسه في ثكنة خفر السواحل الجزائري!!لقد أصبحت «الفتاوى» تتدخل في حياة المسلم المعاصر لتشكل وجدانه وتحكم توجهاته وتحدد مواقفه وتصوراته تجاه السلطة الحاكمة في بلده وتجاه مواطنيه وكذلك تجاه شعوب العالم والحكومات. وباتت «الفتاوى» تلاحق المسلم في سكناته وحركاته، في حله وترحاله، في يقظته ومنامه، وفي كل صغيرة وكبيرة، في كل امر أصبح المسلم لا يطمئن إلا إذا سأل الشيخ المفتي، والأخطر من ذلك كله، أن مجتمعاتنا أصبحت أسيرة لفتاوى الشيخ ومدمنة إياها، ثم تضخم دور «المفتي» وأصبح يفتي في كل أمر، في السياسة، والاقتصاد، والطب، والفلك، والرياضة والفن والإعلام، والبنوك والبورصة والتأمين، والأكل والشرب، وأصبحت «الفتاوى» هي المرجع الأول لمجتمعاتنا، وأصبحت ثقافة «الفتوى» هي الزاد اليومي الذي تقدمه الفضائيات والإعلام للجمهور، ولن تجد أمة متقدمة، تُحكم «المشايخ» في كل شؤونها وتجعل «فتاواهم» مرجعها، كما تفعل المجتمعات الإسلامية، وذلك من أسباب عرقلة تنميتها وتطورها لأن الفتاوى تقدم حلولاً ماضوية لا تناسب أوضاع مجتمعاتنا المعاصرة ولأن أسوأ ما يصاب به أي مجتمع أن يتدخل رجال الدين وأن يؤدوا دور السياسي.لقد تقلصت مساحة الحريات في المجتمع العربي وضاقت، بخاصة «حريات التعبير» لشيوع وهيمنة فتاوى «التكفير» و«التخوين» و«التشكيك» المسلطة على رقاب الكتاب والمفكرين والفنانين. توقفت حركة الإبداع والتجديد، وازداد الأمر سوءاً عندما انزلقت «الفتاوى» إلى سوق السياسة والحزبية، فأصحبت تُوَظّف لخدمة أهداف الصراع السياسي وتُسَخّر لمصالح حزبية وايديولوجية، ولا أدل على ذلك من حرب فتاوى «صلاة العراء» في غزة بين «فتح» و«حماس»، إذ تباينت فتاوى العلماء والمشايخ بشأن جواز صلاة الجمعة في الساحات العامة بسبب الصراع السياسي بين «حماس» و«فتح» واستخدام الفتوى لخدمة الموقف السياسي لكل منهما، فالعلماء المتعاطفون مع «حماس» ومعظمهم من «الاخوان المسلمين» وعلى رأس هؤلاء رابطة علماء فلسطين أيدوا «حماس» بمنع الصلاة وذكروا مستنداتهم الشرعية، وأما في الضفة الغربية فقد أيد العلماء «فتح» وقال قاضي القضاة ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي بجواز الصلاة خارج المساجد بناء على «وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً». ودخل عدد من علماء الأزهر والسعودية على الخط، فأيدوا فتوى الجواز واكدوا عدم شرعية حظر الصلاة في الساحات العامة ويعود أصل هذا الصراع السياسي الديني إلى أن «حماس» وظّفت المساجد توظيفاً سياسياً ضد «فتح» وجعلت من خطبة الجمعة سلاحاً سياسياً ودينياً ضدها، ونسيت أو تناست «حماس» أنها على امتداد «15» عاماً، وهي في المعارضة، كانت تستخدم الساحات العامة لصلوات الجمعة في اغراض سياسية ضد حكومة «فتح» والتحريض ضدها، فلما وصلت إلى السلطة وانفردت بقطاع غزة، انقلب موقفها واستخدمت الفتاوى الدينية في دعم هذا الموقف الجديد، وهذا يوضح للقارئ ويجيب عن تساؤلاته الحائرة: لماذا يختلف العلماء في قضايا المسلمين وشؤونهم؟! إنهم يختلفون بسبب انتماءاتهم السياسية وميولهم الأيديولوجية وبحسب مصالحهم الآنية -أساسا- هكذا كانوا قديماً، وهم كذلك حاضراً، وسيظل الأمر كذلك مستقبلاً. وقِس على ذلك تضارب فتاوى «الجهاد» في العراق وفلسطين وغيرها بين المؤيدين والمعارضين لأن الأصل فيها، هو «الموقف» السياسي للمفتي، ودع عنك «المبررات» الشرعية، فالكل عنده مبررات، حتى فقهاء «الإرهاب» الذين وظفوا اعتداءات 9/11 بغزوة «مانهاتن»، وأطلقوا على الانتحاريين الـ«19» اسم «العظماء التسعة عشر»، بل إن «ابليس» هو الأستاذ الأول للتبرير، إذ برر عصيانه ربه. إن أزمة الفتاوى تجاوزت المجتمعات الإسلامية إلى الجاليات الإسلامية في الغرب، الشيخ الهلالي -المفتي السابق- أثار الاستياء بفتواه عن «اللحم المكشوف الذي يغري القطط» وعزز مواقف المتطرفين ضد الإسلام في أستراليا. ومازالت «الفتاوى» تكرس الفرقة بين المسلمين عبر الشحن الطائفي رغم القمم الدينية والسياسية بصحة إسلام المذاهب الإسلامية كلها، و«تجرم» فتاوى التحريض والتكفير، ولكنه ذلك لايزال غير مُفَعَّل. مازالت منابر «الجمعة» عبر الساحة الإسلامية، تُوظَّف في غير هدفها الديني، منبراً جامعاً للمسلمين، ومصدراً للهداية والنور والألفة والتسامح، مازالت، تُستغل من قبل خطباء صارخين غاضبين محرّضين.كيف نستطيع ضبط وترشيد الفتاوى التي أهدرت دماء آلاف المسلمين؟! هناك اقتراح بقصر الفتاوى على العلماء «الثقات» المؤهلين، ولكن العلماء الثقات هم أنفسهم أصحاب الفتاوى المحرّضة والمسيّسة ومازالوا مختلفين في ختان «الأنثى» و«المسيار» ورؤية الهلال وإجازة الجمعة والسبت وحتى بشأن الاستقطاع من الراتب للتأمين ضد البطالة، كما في البحرين. بعض البلاد شكلت «هيئة فتوى» لمنع التضارب والبلبلة. وذلك أيضا لا يجدي. الحل في تصوري في أمرين: «الأول»، على مجتمعاتنا تحمل مسؤولياتها في التفكير في شؤونها كما تفعل جميع شعوب الأرض، وعليها الكف عن اللجوء إلى الفتاوى إلا في العبادات، فالإسلام جعل ضمير المسلم هو «المفتي» فقال «استفت قلبك»، وتبين الحرام «والإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس» وقال «أنتم أعلم بأمور دنياكم» أي من المفتي. و«الثاني»، صدور تشريعات قانونية لمقاضاة فتاوى التحريض والتكفير والتشكيك، إذ لا تكفي معاقبة الجاني لأن المحرّض شريك الفاعل ومسؤول مثله... كيف يورط شبابنا ويخدعهم ثم يتهرّب من المسؤولية؟!. * كاتب قطري