Ad

الشباب الملتزمون دينياً، المتعصبون مذهبياً، المتطرّفون فكرياً الذين يفجّرون أنفسهم في مقهى أو مطعم أو مستشفى أو دار عبادة أو جنازة أو محطة ركاب أو مترو أنفاق أو في تجمع عمّال كادحين يبحثون عن رزقهم أو في حفل زفاف، هؤلاء هم مرضى «الكراهية» وضحاياها في نفس الوقت.

«الكراهية» ليست فكراً أو ثقافة، إنها مرض خبيث يتسلل إلى النفس الإنسانية ويستوطنها، فيحجب العقل ويُعمي البصيرة ويزرع فيها الأوهام والهواجس فيجعل صاحبها «مرتاباً» سيئ الظن بالآخرين، يفسر أقوالهم بالسوء، ويتصيد أخطاءهم بهدف تجريح المخالف والتشكيك في معتقداته الدينية والوطنية.

«الكراهية» بعبارة أخرى هي «محصلة» كل الغرائز السلبية التي تغذي التعصب والتطرف والاستعلاء والإقصاء والتخوين والتكفير.

لقد تنامى هذا المرض وترسّخ في البنية المجتمعية وتمكّن من النفوس والعقول وأصبح له تجليات ومظاهر: سياسية واجتماعية وأيديولوجية على امتداد الساحة العربية والإسلامية، نراها واضحة ومجسدة في الوضع المتأزم بين الأكثرية والمعارضة في لبنان، حيث يستعصم «حزب الله» وحلفاؤه بالمربعات الأمنية متبنياً خطابا تخوينيا ضد الأكثرية ومستثمراً «سلاح المقاومة» في تأزيم الوضع الداخلي وعرقلة الانفراج السياسي، ونشاهدها في تردي الوضع الفلسطيني وانقسام الفلسطينيين إلى جبهتين متنازعتين تخشى كل منهما الأخرى أكثر من خشيتها العدو المشترك! ونلمسها فيما يحصل في العراق من عمليات تفجير ومجازر وحشية لا سابقة لها في التاريخ البشري على يد «القاعدة» وأنصارها بهدف عدم استقرار الوضع، وكذلك ما يحصل على يد الجماعات الدينية المتطرفة في باكستان وأفغانستان من عمليات دامية يذهب ضحاياها الآلاف من الأبرياء، ونجد امتدادها فيما يحصل في المغرب والجزائر واليمن وموريتانيا وغيرها.

تلك بعض تجليات مرض الكراهية انطلاقا من مناهج متعصبة، وما أحداث المسجد الأحمر في باكستان وكابوس «طالبان» عنا ببعيد! الفتاوى التي تنهمر بكل جراءة وعلانية من قبل أئمة ومشايخ وتكفّر كتّاباً ومثقفين بحجة أنهم «علمانيون» و«متغربون» هي بعض إفرازات مرض الكراهية المتأصل في الثقافة الدينية لهؤلاء المكفرين، وكان آخر ضحايا الفتوى التكفيرية للشيخ البراك، الكاتبان الإسلاميان المستنيران «بن بجاد» و«أبو الخيل»، يحاول بعض المريدين الدفاع عن الشيخ بحماسة والقول إن الشيخ لم يكفّر «القائل» بل «القول» أي أن كلامه يندرج تحت التكفير «المطلق» لا «المعين» وهو لا يجدي لأنهم يتجاهلون أو يتغافلون أن القرائن والسياقات المصاحبة للفتوى تنصرف إلى الكاتبين لا غيرهما، نعم كان يمكن حمل فتوى الشيخ على الكفر المطلق لو جاءت تبياناً لحكم عام وارد في كلام مطلق غير موجه إلى أحد بعينه وغير مرتبط بتلك المناسبة كما وضح الكاتب حمزة المزيني في «الوطن» السعودية، وتلك جناية مرض الكراهية.

كما يتجلى مرض «الكراهية» في التمييز الممارس ضد المرأة والتضييق عليها والانتقاص من حقوقها والخوف منها أو عليها، وفرض الوصاية عليها، وتهميش دورها، وهو عنصر مرضي كامن في الثقافة الذكورية الحاكمة للمجتمعات العربية.

ومن إفرازات داء «الكراهية» إسراف بعضهم في فرض القيود والأغلال على حركة المجتمعات تجاه التحديث، وانشغال الناس بالخلافات العقيمة حول النقاب وتقصير الثياب واللحية والأغاني والموسيقى والاختلاط والفتاوى التي تتدخل في كل شأن من شؤون الحياة، هؤلاء يشيعون جواً مرضياً في المجتمع يصيب الناس بالكآبة والبؤس ويشعرون أنهم مراقبون ومطاردون من الشرطة الدينية التي تتدخل في أخص خصوصياتهم، ذلك «هوس» مرضي وردّ فعل تجاه العولمة والتحديث. ومن مظاهر مرض «الكراهية» اعتقاد بعضهم أنهم أصحاب العقيدة الصحيحة والناجية التي تحتكر الجنة دون غيرها من المذاهب والفرق الإسلامية بحجة أن عقائد معظم المسلمين مشوبة بالشركيات والضلالة والبدع، وقد رأيت كتاباً في «التوحيد» مقرراً على الثالث الثانوي بمدرسة خليجية يقول مؤلفوه فيه «العقيدة الصحيحة السليمة، هي عقيدة أهل السنّة، وهم الذين يأخذون بظاهر النصوص ولا يؤولونها»، وبناء على هذا المفهوم استبعد المؤلفون: الأشاعرة والصوفية والمعتزلة والجبرية والشيعة والخوارج والمرجئة من دائرة العقيدة الصحيحة وغفل هؤلاء عن «حكمة الخالق» في خلق الناس مختلفين عقائد ومذاهب وثقافات وألسنة كما تجاهلوا «الحكمة التربوية» في تجنب زرع «الكراهية» في نفوس الناشئة تجاه من لا يرى رأينا أو عقيدتنا أو مذهبنا.

كفانا حروباً أهلية سببها أفكار تعصبية نغرسها في نفوس الناشئة لتتحول إلى قنابل موقوتة تدمر نفسها ومجتمعها، وعلينا تجاوز تلك الصراعات العقدية المفرّقة للمسلمين لتبقى في ذمة التاريخ، فنحن اليوم في عالم تتعاون شعوبه رغم ما بينها من اختلافات وتتوارث الأجيال الخبرات وتفيد من بعضها، إننا اليوم نتكلم عن حوار الحضارات والثقافات والأديان وعلينا الاتفاق على القواسم المشتركة، وليغدر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، كفانا بُغضاً وكراهية وعداوة وإذا كان القرآن يطالبنا بالبر والقسط والمودة مع المخالفين في الدين فكيف بالفرق والمذاهب الإسلامية، أبناء الدين الواحد؟!

الذين يجاهرون من على المنابر كل يوم جمعة بالدعاء على الآخرين هم دعاة كراهية ولن تستجاب دعوتهم.

والذين ينادون بالمقاطعة الاقتصادية والصدام الحضاري مع الغرب هم ضحايا «الكراهية» المتبادلة، ذلك المرض الذي جعل العالم «يتوجّس» من المسلمين في كل مكان، ويُشكك فيهم ويتشدد في الإجراءات الأمنية معهم، وأفرز في النهاية ما يسمى بـ«الإسلام فوبيا» حتى «الصين» وصلها الداء - الصين اعتقلت 35 إسلاميا خططوا لعمليات خطف وتفجيرات خلال الأولمبياد- لقد بلغ الهوس المرضي ببعض المشايخ أنهم أفتوا «إذا أقمت بديار غير المسلمين فاضمر لهم الكراهية في نفسك» وهذا مخالف تماماً للمنهج الإسلامي «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك».

«الكراهية» مرض أفسد العلاقات العربية وأوهن النظام العربي وقد مثلت «قمة دمشق» أبرز تجليات داء «الكراهية»، إذ عمّقت الانقسام العربي وأتاحت للنفوذ الإيراني مزيداً من التغلغل في العمق العربي وأصبح سلاح المقاومة «بندقية مستأجرة» لحساب التاجر الإيراني، يوجهها حسب علاقته المتوتّرة بالقوى الكبرى.

لقد كان من مظاهر هذا المرض ما تعانيه المجتمعات الخليجية والعربية من تعزيز الغرائز والانتماءات الأولية القبلية والطائفية والإيديولوجية على حساب مفاهيم «المواطنة» الجامعة.

أصبحت للكراهية منابر ومدارس وجامعات ودعاة ومؤسسات رسمية ذات موارد ضخمة تشرف وتمول وتوجه وتنشر الكراهية. والروافد التي تغذّي بحيرة «الكراهية» التي تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم كثيرة، منها: التعصّب والاستعلاء والتطرّف والوصاية على الناس وإقصاء المخالفين، والتكفير والتخوين والآحادية (تملك الحقيقة) كما ساعدت «العولمة» الإعلامية (منابر وفضائيات ومواقع إلكترونية وأشرطة) في استشراء داء «الكراهية» في مجتمعاتنا.

هؤلاء الشباب الملتزمون دينياً، المتعصبون مذهبياً، المتطرّفون فكرياً الذين يفجّرون أنفسهم في مقهى أو مطعم أو مستشفى أو دار عبادة أو جنازة أو محطة ركاب أو مترو أنفاق أو في تجمع عمّال كادحين يبحثون عن رزقهم أو في حفل زفاف، هؤلاء هم مرضى «الكراهية» وضحاياها في نفس الوقت.

ولعل أول من نظّر وحلّل وبلور «الكراهية» ثقافة ونفسية وسلوكاً هو الدكتور راشد المبارك - المفكر السعودي وأستاذ العلوم- في كتاب فذ «فلسفة الكراهية»، ومن المفيد إطلاع القارئ على بعض ما فيه، فهو يقول -بتصرف- «إن أكبر العوامل التي حصدت بسببه نفوس وأريقت دماء وأُزهقت أرواح هو عامل -الكراهية- على مدى التاريخ، وإن فرسان الكراهية لم يجدوا وقوداً أفعل ولا سلاحاً أقتل من النار التي تشعلها الكراهية وتتغذى بها، وليست الحروب الصليبية وهمجية التتار وحروب الأعوام المئة ومحاكم التفتيش والحربان والكونيتان وجرائم الصرب إلا أمثله لما تختزنه نفوس بعض البشر من شرور وآثام أشعلتها الكراهية بسبب العُرف أو الدين أو رفض الآخر»، ويوضح المبارك أن الكراهية في أغلب حالاتها «وسيلة عجز» وعن «جذور الماضي ممثلة في الحروب الصليبية والاستعمار والغرب وأميركا وإسرائيل» يقول: «هذه ينابيع تكفي لسقي بذرة الكراهية واستدامتها، لو كانت الكراهية وسيلة ذكية وناجحة لحل المشاكل، لكن الكراهية ليست كذلك، لأن -شرّ السلاح الأدمع- ولأن إعادة النظر في التاريخ وظروفه وملابساته وأسبابه قد تقود إلى نظرة مختلفة»، «إن الحروب الصليبية ليست حالة شاذة في العلاقة بين المسلمين والنصارى، فالمنازعات والاقتتال صفحات منقوشه في تاريخ كل البشر وقد وقعت بين الأمة الواحدة لدى المسلمين وبين القبيلة الواحدة من العرب، وليس خطأ أن نعرف كل ذلك ونتذكره، كان الخطأ أن نجعل ذلك هو الأرض الوحيدة الصالحة لبناء علاقتنا مع الآخر مع تغير الظروف والملابسات والمفاهيم».

الآن إذا أردنا مواجهة هذا المرض المستشري بالمعالجة المطلوبة، لا سبيل أمامنا غير تبني «المنهج النقدي» للتراث وللتاريخ ورواسب الفرق الكلامية والفقهية عبر توظيف المناهج الحديثة وتطبيقها على مجمل الإرث الثقافي، كما يقول - أركون- بهدف التفكيك والتجاوز والفرز بين ما هو ثابت وأصيل وشرعي، وما هو متغيّر وفرعي وتاريخي، ووصولاً إلى ما هو «إنساني» صالح للبشرية جمعاء.

* كاتب قطري- بالمشاركة مع «الوطن» القطرية