Ad

إذا كانت الفلسفة أصلاً تعني «حب الحكمة»، فإن «الرواقيين» الذين استعرض «غاردر» فلسفتهم في «عالم صوفي» قد كانوا في منتهى الحكمة عندما دعوا إلى حب الحياة، منبهين في ذلك إلى أن الحياة هي الحاضر الذي ينبغي للعاقل أن يعمره ويسعد فيه.

في رواية «فتاة البرتقال» يستعرض الكاتب النرويجي «جوستين غاردر» مصائر أبطاله في مرآة علم الفلك وحساب الاحتمالات وتواتر المصادفات، وهو حين يحاول الابتعاد عن الفلسفة التي كانت لُحمة وسَداة روايته «عالم صوفي» التي أطلقت شهرته عالمياً، فإنه سرعان ما يغير اتجاه سيره، ليقع عاجلاً، ربما بدافع الطبع الذي يغلب التطبع، في أحبولة موضوع فلسفي آخر، تفرضه طبيعة الفلك الذي يعني بتأمل الكون الشاسع، حيث يستتبع ذلك وقوف المتأمل أمام الأسئلة العويصة، التي واجهها الإنسان منذ بدء الخليقة، عن أهمية موقعه كمخلوق حي في هذا الكون الفسيح الذي تبدو أعظم المجرات فيه أكثر تفاهة من رِجْل ذبابة في محيط، كما عبر «كارلايل» مرة، وعن أهمية زمنه المحدود جداً بالنسبة لزمن الكون الذي يبدو بلا نهاية، ثمّ وقوفه، من قبل ومن بعد، أمام السؤال الأصعب المتعلق بموقفه من وجوده الشخصي.

ومن واقع تلك الأسئلة التي تطرحها رواية «فتاة البرتقال»، يبدو واضحاً أن مدرس الفلسفة واللاهوت «غاردر» قد عجز عن الفكاك من أسر غرامه المهني، فعلى الرغم من غزارة المعلومات الفلكية وطرافتها، فإن الرواية برمتها انعقدت على موضوع فلسفي صرف، وإن تدثّر بالمسوح الفلكية.

لكن... إلى أي مدى يمكن للروائي أن ينجح في استخلاص رواية ممتازة من حَشْد المعلومات المتعلقة بالأجرام الكونية، وعددها، وأبعادها، ومقادير سرعتها؟

الحق إنّ «غاردر» قد استطاع أن يفوز في النهاية برواية جميلة تمسك بزمام أشواق القارئ حتى ختامها، لكنه على الرغم من ذلك، لم يستطع أن يتجاوز كثيراً عمله الباهر «عالم صوفي».

ففي «عالم صوفي» كان قد انطلق من رغبته في تعريف الشباب بتاريخ الفلسفة والفلاسفة في العالم، من خلال حكاية خادعة تنتهي بمفاجأة ضخمة هي أن شخصياتها الواقعية التي نلهث معها في مساراتها انبهاراً وثقةً، لم تكن في الحقيقة سوى شخصيات كارتونية!

وهو إذ حقق الهدف المرسوم باستعراض تاريخ الفلسفة، فإنه قد حقق بموازاة ذلك حبكة فنية آسرة تكشف عن «غاردر» الروائي الممتاز، وذلك أمر ما كان ليحققه وحده «غاردر» الفيلسوف.

أما في «فتاة البرتقال» فالموضوع الفلسفي محدّد جداً وإن بدا شاسعاً بحجم الكون، ثم هو واضح منذ البداية وإن حاول الكاتب ايهامنا بغموضه من خلال تأجيل الحديث عنه، ولذلك فإن المفاجآت فيه قليلة، وهي، إذا وقعت، لا تترك أثراً صاعقاً في نفس المتلقي.

الرواية في معظمها عبارة عن رسالة طويلة بلا فواصل، كتبها، قبل موته بفترة قصيرة، رجل مولع بعلم الفلك، ووجّهها إلى ولده حينما كان الآخير في الرابعة من عمره، وخبأها في بطانة كرسي عتيق، على أمل أن يقرأها الولد عندما يكبر، فيجيب عندئذ عن السؤال المهم الذي ضمّنه الأب في طيات الرسالة.

عند بلوغه الخامسة عشرة، يعثر الولد على الرسالة القصة التي يحدثه أبوه فيها عن ظروف تعرّفه بزوجته، وعن المصادفات التي قادت إلى ذلك، وعن تعلقه به بعد إنجابه، ثم إنه، بعد السرد اللاهث الشبيه بحبكة قصة بوليسية، يطرح على ولده السؤال الخطير: «لو أتيحت لك الفرصة، هل كنت ستختار العيش وقتاً وجيزاً على هذه الأرض، ثم تنتزع منها انتزاعاً ولا تعود إليها أبداً؟ أم أنك كنت سترفض العرض ليس إلا؟ ليس لك من بديل آخر. هكذا شاءت القواعد، فإن أنت اخترت الحياة، فستختر معها الموت أيضاً.

إن ردك على هذا السؤال بالغ الأهمية، لأنني مسؤول مسؤولية مباشرة عن وجودك هنا، ما كان بوسعك أن تجيء إلى هذا العالم لو لم أجئ إليه أنا.

لن أكون معك إلا صادقاً، لقد أخبرتك بأني كنت بلا شك سأرفض هذا العرض، فإن كنت تشاطرني الرأي، فإني سأشعر بالذنب لما أسهمت في صنعه وبنائه، وإن قلت إنك، برغم كل شيء ستختار الحياة على قصر مدتها، فساعتها لن يكون لي الحق في أن أقول ليتني ما ولدت... هكذا سيمكن للحساب أن يتوازن وللمركزين أن يتعادلا. ذلك بالطبع ما أتمناه، ولذلك السبب بالذات قررت أن أكتب».

وبصرف النظر عن الرد الذي اختاره الابن، فإن السؤال، على خطورته، يبقى مجرد سؤال افتراضي غايته التحريض على التأمل، أكثر من طلب الإجابة القاطعة، خاصة أن الأب قد قرر بيقين من قبل، أن مسألة الوجود الإنساني ليست سوى لعبة يانصيب عملاقة، لا نرى فيها إلا الأرقام الرابحة، في حين لا نرى على الإطلاق مليارات الأرقام الخاسرة، والقول إن السؤال يبقى افتراضياً مبعثه أن إجابته ليس لها محل للتحقق في الواقع، ذلك لأن الإنسان عاجز عن الاختيار في كل الأحوال، فهو إما أن يكون موجوداً أو غير موجود، فإذا لم يكن موجوداً فليس له أن يختار، وإذا وُجِد فقد فاته أن يختار!

ثم إن الرد بالإيجاب أو السلب لن يسعد الوالد ولن يشعره بالذنب، لأن أحاسيسه على اختلافها قد ماتت بموته، هذا إضافة إلى أن المسؤولية في هذا الأمر ليست معلقة برقبة الوالد، لأنه وما ولد ليسا سوى حلقتين صغيرتين ضائعتين وسط سلسلة الحلقات المتتابعة في الأصلاب منذ بدء الخلق حتى فنائه، وليس وراء أمر حياة أو موت هؤلاء جميعاً إلا إرادة السماء.

الخيار الوحيد أمام الكائن الحي هو إما أن يحب حياته وإما أن يكرهها، وليس من سبيل ثالث بين الاثنين.

وإذا كانت الفلسفة أصلاً تعني «حب الحكمة»، فإن «الرواقيين» الذين استعرض «غاردر» فلسفتهم في «عالم صوفي» قد كانوا في منتهى الحكمة عندما دعوا إلى حب الحياة، منبهين في ذلك إلى أن الحياة هي الحاضر الذي ينبغي للعاقل أن يعمره ويسعد فيه، ذلك لأن الماضي أمر مضى وانقضى، وأن الآتي هو أمر في ذمة الغيب.

وإلى مثل هذا كانت قد انتبهت الكاتبة الأميركية الشهيرة «لورا إنجلز وايلدر» في واحدة من قصص عملها الكبير «بيت صغير على المروج» الذي ضم قصصاً عن حياتها الشخصية وحياة أسرتها.

تقول «وايلدر» في تلك القصة: «تمددت لورا في فراشها مستيقظة، وراحت تصغي إلى العزف الرقيق الذي يوقعه ابوها على الكمان، وإلى الصوت المنفرد الموحش للريح في الغابة الكبيرة، ثم ألقت نظرة إلى أبيها الجالس فوق المصطبة أمام المدفأة، وإلى أمها الجالسة على كرسيها الهزاز عاكفة على الحياكة، وفكرت: «هذا هو الآن»!

لقد كانت مبتهجة لأن البيت الدافئ، وأباها، وأمها، وضوء النار، والموسيقى، هي كلها أشياء ماثلة «الآن» حيث لا يمكن أن تُنسى ذلك لأنّ الآن هو الآن، وهو ما لا يمكن مطلقاً أن يكون شيئاً من الماضي»!

وقد كان بوسعها أن تضيف أنه لا يمكن، أيضاً، أن يكون شيئاً من المستقبل.

* شاعر عراقي