Ad

مصيبة أن يظن أحد ما أن ما يحصل هو فلتان أمني بسبب تقلص هيبة النظام، وأن السبيل الصحيح للتعامل هو الضرب بيد من حديد والغلظة في استخدام السلطة. إن الانجراف وراء هذه الفكرة البائسة سيقودنا إلى مزيد من الاحتقان والتوتر وربما المزيد من المواجهات، وكلي أمل أن يتغلب صوت العقل والحكمة من جميع الأطراف حتى نمضي ببلادنا إلى بر الأمان.

سيكون خطأً فاحشاً النظرُ إلى أحداث الأسابيع المنصرمة على أنها حوادث متفرقة لا ترتبط برابط، صحيح أنه قد يبدو للناظر بالعين المباشرة بأن التجمع الذي حصل أمام مبنى أمن الدولة على خلفية اعتقال بعض المرتبطين بموضوع التأبين لا علاقة له على الإطلاق بالتجمع الذي حصل أمام مبنى المباحث العامة على خلفية اعتقال بعض المتهمين بقضية إقامة الانتخابات الفرعية، إلا أن هذا الأمر غير صحيح على إطلاقه، بل لعلي لا أتردد بالقول إن الرابط أمتن مما يمكن تصوره!

نعم، لا علاقة للمجموعة التي اعتصمت أمام أمن الدولة بتلك التي اعتصمت أمام المباحث العامة، بل لعل المجموعتين أبعد ما تكونان عن بعضهما بعضاً من ناحية الأفكار والارتباطات، ولكن هل يمكنكم أن تروا كيف أن الباعث وراء التجمعين واحد؟!

كلتا المجموعتين من المواطنين الكويتيين، وبغض النظر عن انتماءاتهما العرقية والفكرية والمذهبية، كانتا قد وجدتا أن تعسفاً (أو ظلماً) قد وقع من السلطة تجاه بعض أبنائهما، فقررتا الخروج في تظاهرة حاشدة للتعبير عن رفضهما لذلك.

هذا الأسلوب المختلف للتعبير عن الرأي على خلفية قضايا ذات بعد سياسي أمني، ليس مألوفاً عندنا، والحوادث المشابهة لهذا الأمر معدودة على الأصابع في التاريخ الكويتي، ونادراً ما كنا نرى أن التعبير عن الاستياء أو الرفض تجاوز حاجز التعبير الشفوي من خلال الحديث في الديوانيات والمجالس أو الكتابة في الصحف وعلى استحياء. هذا الواقع الجديد يشي بأن فئات مختلفة من المجتمع، بل في صيغ جماعية منظمة، تجاوزت الشطحات الفردية التي كانت تحصل هنا وهناك، صارت تجد أنها جزء فاعل حيوي من المعادلة السياسية، وأضحت تؤمن بأن من حقها التعبير عن رأيها بشكل يتجاوز الإنشائية الخجولة. وأن معادلة الحكم والشعب، قد صارت اليوم تتمرد على الإطار الذي ظلت حبيسة فيه طوال السنين الطويلة الماضية، وصارت تتجه نحو تفعيل روح الدستور الغائبة التي تقول إن الأمة مصدر السلطات جميعا، وإنها أكثر بكثير من مجرد مجتمع من الرعايا التابعين المتنعمين بعطايا وهبات النظام.

مصيبة أن يظن أحد ما أن ما يحصل هو فلتان أمني بسبب تقلص هيبة النظام، وأن السبيل الصحيح للتعامل هو الضرب بيد من حديد والغلظة في استخدام السلطة. إن الانجراف وراء هذه الفكرة البائسة سيقودنا إلى مزيد من الاحتقان والتوتر وربما المزيد من المواجهات، وشواهد التاريخ لمختلف الأمم في الشرق والغرب تكشف جميعها بلا استثناء وعورة وخطورة هذا المسلك وكيف أنه قاد البلدان دائما نحو مزيد من الأزمات والآلام.

لا حل إلا بالمزيد من الديموقراطية، والمزيد من الشفافية، والمزيد من الالتفاف حول الناس، فالناس وحين يشعرون بأن النظام يعاملهم باعتبارهم مصدر السلطات جميعاً بالفعل، وحينما يشعرون بشفافيته وصدقيته في تعامله مع ممارستهم الانتخابية ومع حقهم في المشاركة في إدارة شؤون بلادهم، وحينما يشعرون بأنهم سواسية أمام القانون الذي يطبق على الجميع بلا استثناء، الغني قبل الفقير والقوي قبل الضعيف، فلن يملكوا مع الوقت سوى الاستجابة والانصهار في بوتقة الوطن الواحد والتسامي فوق فروقاتهم الجزئية. أي محاولة للسباحة بالبلاد عكس تيار الحرية والديموقراطية والانفتاح، سيقود إلى الغرق وحينها فلا يمكن إعادة الحياة للموتى!

* * *

وقوفي ضد الفرعيات لا يخفى على أحد، ومقالاتي السابقة كلها تتحدث عن هذا الأمر، ولكن هذا لا يجعلني أتردد في القول إن إلقاء القبض على بعض أبناء القبائل لمجرد الاشتباه في عقدهم اجتماعات تشاورية تهدف إلى عقد انتخابات فرعية هو من قبيل التعسف في استخدام السلطة، وإبقائهم رهن الاحتجاز عدة أيام هو تجاوز لإطار الحكمة المنشودة. نعم، أنا مع إيقاف الفرعيات والتصدي لها حتى آخر رمق، ولكن شريطة أن يتم ذلك وفق إطار القانون ومراعاة الحكمة التي لا تؤدي بالأمور إلى الانفجار.

من الجانب الآخر، لا بد من القول إن ما قام به بعض أبناء القبائل من الاعتداء على رجال الأمن ومحاولة اقتحام مبنى المباحث هو عمل أخرق خارج عن كل أصول الحكمة والعقل، و لا يمكن على الإطلاق قبوله. قبول مثل هذا الأمر اليوم من فئة ما، كائنة من كانت، سيؤدي بنا جميعاً إلى وضع لا تحمد عقباه حيث لن تتردد على أي جماعة أو فئة أخرى على سلوك ذات المسلك.

كلي أمل أن يتغلب صوت العقل والحكمة من جميع الأطراف حتى نمضي ببلادنا إلى بر الأمان، خصوصا وهي تعيش في هذا المحيط الإقليمي الملتهب.