لعبة الثقة
الثقة قد تنبع من ثلاثة منابع: الأمل، والكبرياء، والتقدم. فالنجاح يولد الثقة، والثقة تجلب التقدم. والصين والهند اليوم على اقتناع تام بأن النجاح بات من نصيبهما. فهما يريان في الغرب مزيجاً من الاحترام لإنجازاتهما والخشية من التحدي، الذي باتا يفرضانه الآن، وهذا يملؤهما بالكبرياء والاعتداد بالنفس.
تشكل الثقة عنصراً أساسياً من عناصر الحياة، وينطبق هذا على الأمم والحضارات بقدر ما ينطبق على الأفراد. إن الثقة هي قوام الأمل. فهي تسمح للمرء بأن يتصور نفسه في المستقبل، وأن يحقق قدراته أو حتى يتفوق عليها. ورغم أن الثقة تنبع من الداخل، فانها قد تتعزز أو تضعف تبعاً للطريقة التي يتقبلها بها الآخرون. ولكن الثقة، مثلها في ذلك كمثل ضغط الدم، لابد أن تكون متوازنة، فالمشكلة تبدأ حين يتمتع المرء بقدر أكثر مما ينبغي أو أقل مما ينبغي من الثقة. والمبالغة في الثقة في الذات لا تقل خطورة عن الافتقار إلى الثقة في الذات في زعزعة الاستقرار.ولنتأمل معاً حال أميركا في العراق على سبيل المثال. لقد كانت ثقة إدارة بوش المفرطة في شرعية أهدافها نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط السبب الأول، قبل الأخطاء في التنفيذ، وراء الكارثة التي باتت تلوح في الأفق هناك.
كنت اخيراً قد تحاورت مع أحد المفكرين الرئيسيين الذين دفعوا الإدارة إلى اتخاذ قرار «تحرير» العراق من صدّام حسين. ورغم أن ذلك الرجل من كبار المحافظين الجدد، فانه بدا له وكأن ديموقراطيته تميل إلى البلشفية، بسبب ثقته الراسخة في شرعية رؤيته.وطبقاً لرؤيته فإن الوضع الراهن في الشرق الأوسط كان خطيراً وغير سليم. فالديموقراطية في العراق لن تجلب السلام إلى القدس فحسب، بل إنها ستؤدي أيضاً إلى إيجاد نوع من التوازن الأفضل في العالم العربي بالكامل. ولأن الولايات المتحدة هي الدولة الأشد قوة والأعظم حكمة بين دول العالم، فقد بات لزاماً عليها أن تضطلع بدورها، ويتعين على العالم أن يحتشد تحت رايتها في التصدي لهذا التحدي بشجاعة.بعبارة أخرى، نستطيع أن نقول إن محاوري هذا، مثله في ذلك كمثل إدارة بوش بالكامل، كان حتى أوائل صيف عام 2007، يعيش حالة من الإنكار. فهو يرى أن الأمور تجري على خير ما يرام في العراق، وأن توازن القوى الجديد بدأ في ترسيخ نفسه، وهو التوازن الذي من شأنه أن يخدم الغالبية الشيعية في العراق، ولكن ليس إيران بالضرورة. وطبقاً لتعبيره فقد بدأت شجاعة وجرأة حكومة الولايات المتحدة وجيشها «تؤتي ثمارها» أخيراً. ولا ينبغي لنا أن نسمح للعنف اليومي بأن يحجب عنا الحقائق الإستراتيجية الأكثر عمقاً، التي تتلخص في أن النصر بات قاب قوسين أو أدنى، وأن العالم سرعان ما سيدرك ذلك على الرغم من كل الدعاية المناهضة للرئيس بوش وإدارته.حين يصل فرط الثقة في الذات إلى هذا المستوى، فإن هذا يكون عادة نتاجاً للمبالغة في تقييم القدرات الذاتية والعجز عن تقييم قدرات الخصم. وكل من الأمرين نتاج لقراءة أيديولوجية للعالم لا ترتبط بالواقع إلا قليلاً. فأثناء غزو روسيا في عام 1941، أظهر هتلر، تماماً كما فعل نابليون من قبله، قدراً مفرطاً من الثقة في القدرات العسكرية، الأمر الذي أدى إلى الكارثة في النهاية. وحتى صدّام ذاته بالغ في تقدير أوراقه من منطلق اقتناعه بأن أميركا لن تجرؤ على مهاجمته.على المنوال نفسه، قد يكون الافتقار إلى الثقة من جانب البلدان، أو الثقافات، أو الحضارات على القدر ذاته من الخطورة. فالاقتناع العميق بأن الإصلاح لن يقود إلا إلى الثورة والفوضى كان دوماً السبب في تشويه الحقيقة وتسفيهها على النحو الذي لابد وأن يؤدي بدوره إلى الجمود واليأس وبهذا يتحول الأمر إلى ما يشبه الرضا بالقدر. على سبيل المثال، كان ثبات الوضع الراهن في مصر، التي تشكل نموذجاً مثالياً للموقف السياسي السائد في الشرق الأوسط، نتيجة لافتقار النظام التام الى الثقة في قدرته على الانفتاح والإصلاح. وكذلك الحال في الجزائر، وتونس، وحتى في المغرب، حيث كان الافتقار نفسه إلى الثقة وراء الموقف المتفجر هناك. ولأن شرعية هذه الأنظمة غير الديموقراطية غير مستمدة من دعم شعوبها لها، فإنها ترى أن المجازفة المترتبة على الانفتاح أعظم من تكاليف الإبقاء على الوضع الراهن.بطبيعة الحال، ليس بالضرورة أن تكون الثقة في الذات كاملة، ويصدق الكلام ذاته على الافتقار إلى الثقة في الذات. فبلد مثل إسرائيل تعج بالثقة الاقتصادية، إلا أنها تفتقر تمام الافتقار إلى الثقة في الذات حين يتصل الأمر بالاعتبارات الإستراتيجية والسياسية.ولكن هل هناك من يستطيع أن يصب القدر المناسب من الثقة في الذات في البلدان أو الكيانات التي تحتاج بشدة إلى مثل هذه الثقة؟ وإذا كان فرط الثقة في الذات على هذا القدر من الخطورة فهل من الممكن أن يتعلم من يعاني هذه العلة كيف يكبح جماح ذاته بالتحفظ والتواضع؟من العجيب في هذا الأمر أن اكتساب الثقة قد يكون أيسر من تقييدها. فالثقة قد تنبع من ثلاثة منابع: الأمل، والكبرياء، والتقدم. فالنجاح يولد الثقة، والثقة تجلب التقدم. والصين والهند اليوم على اقتناع تام بأن النجاح بات من نصيبهما. فهما يريان في الغرب مزيجاً من الاحترام لإنجازاتهما والخشية من التحدي، الذي باتا يفرضانه الآن، وهذا يملؤهما بالكبرياء والاعتداد بالنفس.إن محاولة فرض الديموقراطية على الآخرين تشكل تصرفاً يتسم بقدر لا حدود له من الغطرسة. إلا أن الديموقراطية تشكل أيضاً أفضل علاج ضد الإفراط في الثقة في الذات، وذلك لأنها تسمح للمواطنين العاديين باتخاذ القرار حول ما إذا كان زعماؤهم يتصرفون بغطرسة أو من منطلق شعورهم بالمسؤولية. ولن يتسنى تحقيق التوازن في هذا السياق إلا من خلال الاستعانة بالآليات الديموقراطية الحقيقية القادرة على تصحيح وتقويم ذاتها.* دومينيك مويزي | Dominique Moisi ، مؤسس وكبير مستشاري المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية Ifri، ويعمل حالياً أستاذاً بكلية أوروبا في ناتولين بمدينة وارسو.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»