أحقاً... غيفارا مات؟!
الآن وبعد أربعين عاماً من مقتل هذا الثائر الأممي الذي لايزال حضوره كاسحاً ولم يغب، هل يستطيع «السيرجنت» البوليفي ماريوتيران، بعد أن أعاد إليه الأطباء الكوبيون -رفاق تشي غيفارا- بصره، النظر في صورة هذا المقاتل الأسطورة الذي لاتزال صوره تنتشر في أكواخ وأزقة دول أميركا اللاتينية كلها؟!
من غرائب هذا الزمن وعجائبه أن أطباء كوبيين، متطوعين للعمل في بوليفيا، قاموا بإجراء جراحة مجانية لإزالة المياه الزرقاء، وليس الخرزة الزرقاء، من عين «السيرجنت» السابق في الجيش البوليفي الذي قتل الثائر الأممي الأسطورة «تشي غيفارا» والغريب أن إجراء هذه العملية قد تلاءم مع حلول الذكرى الأربعين لاغتيال هذا الرجل الذي ترك وطنه الأرجنتين والتحق بـ«فيدل كاسترو» الذي قاد واحدة من أهم ثورات القرن العشرين وحرر كوبا من نظام «باتيستا» الذي يعد من أسوأ الأنظمة التي عرفتها البشرية. بعد انتصار هذه الثورة، التي لاتزال ثورة ولايزال قائدها فيدل كاسترو على قيد الحياة بعد حياة حافلة مديدة، تخلى تشي غيفارا عن رفيق دربه وعن المناصب الحكومية في الدولة التي تحولت إلى مخرز في خاصرة الولايات المتحدة وانتقل إلى بوليفيا رافعاً راية تحرير أميركا اللاتينية كلها من النفوذ الأميركي ومن الجوع والقهر والدكتاتوريات. ولأن الثورة الكوبية، التي كان أحد قادتها الرئيسيين، انطلقت من الجبال والغابات قبل أن تصل إلى «هافانا» وتقتلع «باتيستا» وعفنه فقد اختار غيفارا الجبال والغابات وقاد مجموعة من الثوار الحالمين الذين تناقص عددهم واحداً بعد الآخر إلى أن انتهت تلك «المغامرة» الشجاعة بصورة مأساوية ووقع هذا الثائر الأممي الأسطوري في الأسر وقتل بدمٍ بارد في التاسع من أكتوبر عام 1967. في تلك الأيام التي قتل فيها تشي غيفارا بدم بارد بعد وقوعه في الأسر وبعد جروح بليغة أصيب بها في معركة «لا هيجيرا» كان العرب مازالوا يعيشون مرارة هزيمة «يونيو» المنكرة، وكان الرهان قد انتقل من الأنظمة «الثورية»، التي هي سبب تلك الهزيمة، إلى المقاومة الفلسطينية التي تحولت إلى ظاهرة عارمة اجتاحت الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، وكان العرب ينظرون إليها باحترام وقدسية ويرفضون النظر، حتى مجرد النظر، إلى أخطائها التي بدأت تظهر في تلك المرحلة المبكرة. ولذلك ولأن «نجومية» تشي غيفارا كانت قد غزت هذه المنطقة، التي اندفعت بعد هزيمة «يونيو» 1967 نحو ظاهرة المقاومة والقتال والثورة والحروب الشعبية، فقد كانت أشرطة الشيخ إمام وأشعار أحمد فؤاد نجم تنتشر في الجامعات والمدارس وقواعد الفدائيين انتشار النار في الهشيم، وكانت هذه الأشرطة والأشعار تمجد هذا الثائر الأممي الأسطورة كما كانت تمجد بطولات الفيتناميين وشجاعة الذين كانوا يحملون السلاح كلهم من أجل حرية شعوبهم وتحرير أوطانهم. بعد مقتل تشي غيفارا جاء ردّ الفعل من حيٍّ شعبي فقير في القاهرة، على لسان أحمد فؤاد نجم وبحنجرة الشيخ إمام وأوتار عوده، وقد استقبله الشباب المثقفون في الوطن العربي كله: غيفارا مات غيفارا مات آخر خبر في الرَّاديوهات كان وجع القلوب عميقاً وكانت الآمال كلها تتجه نحو الثورة الفلسطينية... وكان «غيفارا» في كل مكان ظاهرة وإعجاباً وحزناً... وكان جيل كامل يهتف وراء أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام: غيفارا مات غيفارا مات. لقد أصبحت «البيريه» السوداء المزينة بالنجمة الخماسية الحمراء راية لكل من يكره الظلم ويقاومه هنا في هذا الشرق المظلوم والمعذب، وهناك حتى في أوروبا المتورمة بالأوجاع والعاهات والأحقاد الطبقية والاجتماعية التي غدت كأنها بلا قيم وكأن شعوبها لم تعد لها قضايا غير قضايا اللهاث اليومي وراء لقمة العيش وصرعات «الموضة» وتلبية الشهوات الحيوانية والتردد على حانات الأشربة المحرمة. الآن وبعد أربعين عاماً من مقتل هذا الثائر الأممي الذي لايزال حضوره كاسحاً ولم يغب، هل يستطيع «السيرجنت» البوليفي ماريوتيران، بعد أن أعاد إليه الأطباء الكوبيون -رفاق تشي غيفارا- بصره، النظر في صورة هذا المقاتل الأسطورة الذي لاتزال صوره تنتشر في أكواخ وأزقة دول أميركا اللاتينية كلها؟! * كاتب أردني