Ad

كتاب غاليانو الجديد «أفواه الزمن» قراءة لموقعنا كبشر على سطح هذا الكوكب المثقل بالأطماع والمظالم، والمؤسس على غلبة القوى الكبرى، التي تبدّل، كل يوم، معاني الكلمات، كما تبدل القمصان القديمة، لتضعها في خدمة أطماعها، بحيث تبدو الواجبات الضخمة الملقاة على عاتق الضعفاء كأنها نوع من التخفيف والرحمة.

أغلب ما صدر للكاتب الأرغواني «إدواردو غاليانو» ينعقد على نصوص بالغة القصر كثيفة المعنى، وهي، مهما تباينت موضوعاتها، تقرع باب الوعي لدى القارئ بقبضة رقيقة حانية، لكن صوتها يتواصل حاد الرنّة، مما يُسلم القارئ إلى سلسلة مديدة من التداعيات المؤرقة، فسواء أكان الموضوع لمحة سياسية مباشرة، أم تعليقاً رياضياً، أم مجرد خبر يمكن أن يضيع تماماً وسط لجة مليارات الأخبار اليومية، فإن غاليانو يصفّيه، ويختمه ببصمة براعته النادرة، فينشئ له، حينئذ، منزلة ثابتة في الذاكرة لا ينقص من شخصيتها اختلاف الأماكن أو تباعد الأزمان.

وفي كتابه الجديد «أفواه الزمن» الذي صدرت طبعته العربية عن دار المدى بترجمة صالح علماني، والذي ضم ما يزيد على ثلاثمئة وثلاثين نصاً، لا يحيد غاليانو عن خطته هذه، فعلى الرغم من اختلاف الموضوعات وتعدد المصادر، نخلص في النهاية إلى الهدف الذي وضعه نصب عينيه: قراءة موقعنا كبشر على سطح هذا الكوكب المثقل بالأطماع والمظالم، والمؤسس على غلبة القوى الكبرى، التي تبدّل، كل يوم، معاني الكلمات، كما تبدل القمصان القديمة، لتضعها في خدمة أطماعها، بحيث تبدو الواجبات الضخمة الملقاة على عاتق الضعفاء وكأنها نوع من التخفيف والرحمة، فيما تبدو حقوقهم الهزيلة أو المهضومة، على الجانب الآخر، وكأنها منّة عظيمة تقتضي الحمد والشكر ومضاعفة حمل الأثقال.

وفي هذا السبيل يحرّض غاليانو إدراكنا على التقاط خيوط المعاني الصغيرة الصحيحة من كرة الخيوط الملتفة على الاحتيال والكذب. أي أنه يريد لنا، فيما نحن نخسر دائماً نتيجة للغش الذي يمارسه اللاعبون الأقوياء، أن نفهم طرائق الغش لديهم، أو أن ندرك، على الأقل، أننا مغشوشون.

وإذا كان الكاتب قد رأى أننا، نحن الناس، أقدام الزمن وأفواهه التي تروي رحلة الإنسان على هذه الأرض، فإنّه بتسجيله هذه النصوص إنما أراد أن يؤرخ أنفاس الناس، ويثبتها في السجل المكتوب لكي لا يضيع «العابر» ولو كان صحيحاً وبريئاً، في خضم «المؤسس» وإن كان خاطئاً وخبيثاً.

في نص عنوانه «أحجيات» يعرض لنا غاليانو صورة امرأة عجوز في واحد من بلدان أميركا اللاتينية، كانت، مثلما هي الحال كل يوم، تنثر حبوب الذرة لدجاجاتها الكثيرات، عندما ظهرت سيارة لامعة وسط سحابة من الغبار.

ودون أن يحيي، ودون أن يُعرّف بنفسه، وجه السيد راكب السيارة ذو البذلة الأنيقة وربطة العنق والحقيبة، سؤالاً إلى المرأة العجوز: «إذا ما أخبرتك كم عدد دجاجاتك بالضبط، فهل ستعطينني واحدة منها؟».

لم تقل هي أي شيء، لكن السيد شغل جهاز الكمبيوتر الشخصي، وشغل نظام «ياهو» للصور الفضائية، وفي الحال أعلمه الكمبيوتر: «أنت تملكين مئة دجاجة ودجاجتين» ثم اختطف واحدة منها وأمسك بها بين ذراعيه.

سألته العجوز: «إذا ما أخبرتك في أي مجال تعمل حضرتك، فهل ستعيد إلي الدجاجة؟».

ابتسم السيد: «بالطبع».

لكن الابتسامة تلاشت عن شفتيه، عندما حزرت هي، من دون أدنى تردد... أنه خبير من إحدى المنظمات الدولية.

تلعثم وهو يضع الدجاجة على الأرض: «كيـ... كيف عرفت ذلك؟!».

قالت له إن الأمر سهل جداً، فقد جاء من دون أن يستدعيه أحد، واندسّ في خن دجاجاتها من دون إذن، وأخبرها بشيء هي تعرفه من قبل، وتقاضى أجراً مقابل ذلك!

قد يكون مثل هذا الأمر قد حدث في الواقع، وقد لا يكون، لكننا نسلم، في أي حال، ببراعة الالتقاط، وبراعة التعبير، وبراعة التوعية في نص ممتع اختزل موضوعا عويصاً ومؤلماً، وعبأه في كبسولة صغيرة، ثم دحرجها لتبحث عن هويتها في معترك أدبي خالص، فلم تعدم أن يتبناها أي نوع من أنواع الأدب!

وفي نص «يد عاملة» نفاجأ بوجود طفل باكستاني يرعى للعالم ذكرياته فيما هو غائب عن ذاكرة العالم، ويصنع للعالم بهجته فيما هو غاطس في بؤرة البؤس:

محمد أشرف لا يذهب إلى المدرسة، منذ طلوع الشمس إلى أن يطل القمر، يقطع، ويعيد التقطيع، ويثقب، ويركب، ويخيط كرات قدم، تخرج متدحرجة من قرية «عمر كوت» الباكستانية، إلى استادات العالم.

محمد عمره إحدى عشرة سنة، وهو يفعل هذا منذ الخامسة من عمره. لو كان يعرف القراءة، والقراءة بالإنكليزية، لاستطاع فهم العبارة التي يلصقها على كل كرة ينجزها: «هذه الكرة لم تصنع للأطفال»!

ها هو غاليانو قد دفع في أذهاننا قطعة الدومينو الأولى، وهو يعلم أن سقوطها وحدها كاف تماماً لرجرجة حواسنا كلها دهشة وحزنا وغضبا، لكنه يعلم أيضاً أن قطعاً كثيرة غيرها ستتساقط في وعينا بالتداعي.

هل وقف بنا خطيباً؟ هل صرخ احتجاجاً؟ هل أنبأنا، مثلاً، أنه إذا وقع حادث ما في موقع ما في هذا العالم الفسيح، فإن العالم الحر الجميل، لن يجد في أي مكان حائطاً يعلق فوقه تهمة الإرهاب، أو يوجه نحوه صواريخ العقاب العابرة للقارات، إلا حائط بيت محمد أشرف... ذلك الطفل المنشغل بصنع كرات الأقدام، عن كل ما تصنعه كرات المدافع؟!

لم يقل شيئاً من ذلك، لكنه قاله كله، ووسع المجرى لآلاف الأقوال الأخرى. وهاك لقطة بعنوان «الجمهور»... تستعرض زحام الناس الشديد أمام مدخل دار سينما في العاصمة الكوبية، وموقف الشرطي «ممثل السلطة» من هذا الزحام: الشرطي يحاول تنظيم صفوف الناس، كانت نيّاته طيبة، وربّما بطوليّة، لكنّها لا تبدو شديدة الواقعية، فكلما توصل إلى جعل الناس يقفون في الدّور، كان الصف ينفجر في فوضى جديدة.

صاح بصوت آمر: «إلى الوراء. أيّتها السيدات، وأيّها السادة، الصف سيتشكل وراء الجدار. مما وراء الجدار... وإلى هناك». تساءل الحشد بدهشة: «أي جدار؟!».

فـأوضح سيف النظام: «إذا لم يكن الجدار موجوداً... فتخيلوه»!

كم من مواجع خبيئة في أعماق كل منا ستستيقظ على وقع تلك الصورة العابرة والبسيطة التي عرضها غاليانو بكل تركيز وسعة؟!

إنها الكتابة التي تتضمن غير المكتوب كله، والشهقة التي تدفع أمامها آلاف الزفرات! إن أول ما سيطرق أذهاننا، بعد هذا النص، هو ظاهرة الذهول التي نراها تغشى الشعوب المقموعة في كل مكان بعد سقوط الطاغية، إذ إن تلك الشعوب، تبدو، برغم فرحها الغامر، ضائعة وغير مصدقة، وعاكفة على التساؤل بارتياب ورهبة: «ماذا سنفعل الآن؟» وهو تساؤل لا يبحث عن إجابة بقدر ما يعبّر عن حيرة. ذلك لأن الجدار القائم في الكابوس لا يسقط عن صدر النائم بمجرد اليقظة، بل تبقى نسخته الساخنة منتصبة في ذهنه، وشاهدة على هلعه المستمر حتى خارج النوم!

وفي السياق ذاته يندرج قول رئيس تحرير إحدى الصحف بعد إلغاء الرقابة على المطبوعات: «منذ الآن لن نستطيع أن نعرف ماذا سيغضب السلطة وماذا سيرضيها».

معنى هذا أن جداراً حقيقياً قد سقط في الواقع، لكنه، بفعل الخوف المعتاد، قد فرض على رئيس التحرير أن يقيم في ذهنه صفوفاً متراصفة من الجدران المتخيلة!

في «أفواه الزمن» كثير من البكاء الذي يواسي المرزوئين، لكنّ فيه أيضا كثيراً من الهجاء الذي يؤدب الغطرسة، وذلك ما يلزم أن نحتفل به في مساحة خاصة.

* شاعر عراقي- تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية