الأرجح أن التطرف حالة قطيعة مبرمة، لا يمت بصلة إلى أي نصاب قائم، اتسع للإسلاميين أم لم يتسع، أُفرد لهم مكاناً أم لم يُفرد. تلك هي سمته الفارقة وجوهر وظيفته. وهو صيغة مستحدثة، في زمن العولمة، للحركات الفوضوية التي نشأت في الغرب وبعض الشرق (روسيا)، بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.عادة ما يصار إلى تعليل التطرف، يعبر عن نفسه إرهاباً، بالقمع، فيُقال، مثلاً، إن أنظمة متشددة قاسية في التعاطي مع الإسلاميين، سدَّت عليهم منافذ التعبير وفرص الانتظام، فدفعت أوساطاً منهم وفئات، تلك الشّابة على نحو خاص، إلى الغلو قولاً وخطاباً وإلى العنف فعلاً وارتكاباً.
لو صح مثل ذلك التعليل، وهو شائع مبتذل في التحليلات والتعليقات السيّارة، لكان نصيب سوريا أو تونس، مثلاً، من جرائم الإرهاب أوفر من نصيب مصر أو المغرب أو الجزائر، وذلك ما ينافي، بداهةً، واقع الحال ومجرياته. فسلطات البلدين الأوليّن، وهي ذات باع معلوم في التضييق على الإسلاميين، بلغ أحيانا أقسى العنف وأقصاه، تمكنت، وإن نسبياً، من التحكم في ظاهرة الإرهاب ومن تحييد مخاطرها، أو على الأقل من الإبقاء عليها دون منسوبها، الفادح، في أقطار أخرى، في حين أن الظاهرة تلك استشرت أو هي لا تزال مستشرية، في بلدان كانت سلطاتها أكثر انفتاحاً على حركات الإسلام السياسي.
أما المثال المصري، فمعلوم مشهور بما يغني عن كل إسهاب، فقد كانت مصر سبّاقة في هذا المضمار، حيث عمد الرئيس الراحل أنور السادات إلى إعادة إدراج حركة الإخوان المسلمين في الحياة العامة، أفرج عن قادتها ونبذ سياسةً كان يتوخاها سلفه حيالها قوامها القمع والملاحقة، ومكّنها من فرص الوجود (وإن دون القانوني) والتعبير، فكان أن سقط الرئيس إياه صريعاً برصاص التطرف الديني، أو المتذرع بالدين، تجليا مبكّراً وتأسيسياً للإرهاب الراهن، إذ رسم بمعنى من المعاني قسماته وحدوده النهائية: تدخلا عنفياً في مجرى التاريخ، دراماتيكيّا من حيث الوقع، عقيماً من حيث المفعول (إن قِيس بمعيار المراد منه)، إذ أن مقتل السادات لم يثنِ مصر عن منحى سلكته في عهده وعلى يديْه، سلاماً مع إسرائيل وتقارباً مع الغرب.
وأما حال المغرب، فربما كان في هذا الصدد أجلى وأوضح دلالة. إذ لم توجد دولة ربما استبقت الظاهرة الإسلامية، قبل أن تستوي عنصر توتير سياسي وأمني مقيم، وبادرتها بالمعالجة السياسية، كما فعلت الدولة المغربية، منذ عهد عاهلها الراحل، الحسن الثاني. استوعبت الإسلاميين داخل المجال الدستوري والقانوني، فتشكلوا حزباً («العدالة والتنمية») حُظي بالاعتراف وخاض المعارك الانتخابية، حتى تبوأ مرتبة الحزب الثاني في البلاد في الاقتراع التشريعي الذي نُظّم قبل أشهر، وتحول إلى قوة برلمانية يُعتدّ بها. بل إن في المغرب حزباً إسلامياً آخر، هو «العدل والإحسان»، لم ينل الاعتراف ولكنه يعمل في النطاق العلني، قد يُلاحَق أحياناً أمنياً أو قضائياً ولكن دون الإجهاز عليه، يتخذ مواقف راديكالية تبلغ مبلغ الخروج على الإجماع الوطني حول العرش مثلاً، وكان يُفترض فيه، لصفاته تلك، أن يعبر عن «التطرف» وأن يلجمه، وإن بمقدار. ومع كل ذلك، شهد المغرب أعمالاً إرهابية دامية فظيعة ومعلومة.
حتى الجزائر، وإن دخلت سلطاتها مع إسلاميي «جبهة الإنقاذ» في صدام تفاقم حرباً أهلية استمرت عقداً من الزمن، ورغم أخذها بسياسة اعتُبرت، في إبانها، «استئصالية»، إلا أنها سرعان ما آبت إلى مقاربة سياسية، خصوصاً منذ وصول عبد العزيز بوتفليقة إلى سدة الرئاسة، فتم إدماج أحد الأحزاب الإسلامية في الحكومة، واتُّخذت مبادرة «المصالحة الوطنية»، عفواً يصدر لفائدة من يلقي السلاح، وسُمح لبعض قادة «جبهة الإنقاذ»، شأن الشيخ رابح كبير، بالعودة من منافيهم ومُكّنوا من النشاط العلني، ومع كل ذلك لا تزال الجزائر نهباً لإرهاب فتّاك، كان آخر عملياته المدوية من اقتراف رجل تجاوز الستين وشاب تائب سابق، كان قد استفاد من قانون «المصالحة الوطنية».
هذه الأمثلة، وغيرها الكثير، تقدم الدليل على تهافت القول الشائع والذي يذهب إلى أن الإرهاب يستفحل طرداً مع اشتداد قمع الإسلاميين والتضييق عليهم. قد يستقيم مثل ذلك قولاً سياسياً، يتفوه به بعض القادة الإسلاميين الموصوفين بالاعتدال، من باب تزيين الاعتراف بهم، لتولي دور الحاصن من التطرف والصادّ عنه (يتردد مثل هذا الكلام كثيراً، على سبيل المثال، على لسان زعيم حركة «النهضة» التونسية، راشد الغنوشي)، ولكنه لا يستقيم البتة، تشخيصاً دقيقاً صائباً لواقع الحال.
الأرجح أن التطرف (يتجلّى إرهاباً) حالة قطيعة مبرمة، لا يمت بصلة إلى أي نصاب قائم، اتسع للإسلاميين أم لم يتسع، أُفرد لهم مكاناً أم لم يُفرد. تلك هي سمته الفارقة وجوهر وظيفته. التقاؤه في المرجعية العقائدية أو الإيديولوجية، بهذا المقدار أو ذاك، مع قوى ضالعة في المؤسسات القائمة، ليس بذي مفعول على الإطلاق، والمثال الأقصى في هذا الصدد ربما قدمته المملكة العربية السعودية: دولة دينية، إلى التشدد أقرب، كابدت وقد تكابد إرهاباً شديد الوطأة بالغ العنف، يتذرع بالدين.
ذلك أن مشكلة التطرف، في العمق، ليست مع الإيديولوجيات والعقائد، بل هي مع الأنصبة المُمأسسة، يناصبها عداءً تدميرياً لا يستثني منها تلك التي يشارك فيها إسلاميون، وهو لذلك قد يكون صيغة مستحدثة، في زمن العولمة هذا، للحركات الفوضوية التي نشأت في الغرب وبعض الشرق (روسيا)، بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
وقد يعود هذا التطرف المستحدث إلى بطلان فعل ووظائف المعارضة السياسية، وفق صيغها المعتادة والتقليدية، وهي النقطة التي سنعود إلى تناولها في مناسبة مقبلة.
*كاتب تونسي