Ad

تسعى واشنطن إلى إبقاء الملف الإيراني مفتوحاً وألا يتجرأ أحد على بلورة حل نهائي له أو إسدال الستار عليه، لأن إجراء كهذا لا يمكن أن يكون لمصلحة إدارة متورطة في كذبة لا تزال تعيش تداعياتها الخطيرة.

أن تتفق طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية على إطار زمني محدد لفك «الغموض» الذي يلف الملف النووي الإيراني، كما يقول «المجتمع الدولي» المحفز أميركياً، بالطبع ضد كل ما هو سلوك إيراني يغرد خارج السرب! يفترض أن يلقى ترحيباً حاراً من قبل «رعاة» هذا المجتمع الدولي، والأهم من ذلك أن يعطى الفرصة الكافية ليجرب حظه العملي، كما هو معلن من قبل الطرفين اللذين اجتمعا في طهران في الجولة الثالثة من محادثات مضنية وصعبة، لكنها شفافة وجدية ومثمرة وبناءة بكل المقاييس، خاصة بنفس مقياس ومعيار الوكالة الدولية صاحبة المرجعية القانونية التي لم تخف ِسرورها بالإنجاز الكبير الذي حققته، كما جاء في تصريحات مساعد الدكتور محمد البرادعي في العاصمة الإيرانية طهران أواسط الأسبوع المنصرم!

لكن السؤال الذي حير المراقبين هو رد الفعل الأميركي المشكك والمتسرع على الاتفاق، والذي ترافق مع الاستمرار في تهديد طهران وإعلان واشنطن الصريح أنها ماضية قدماً في العمل على إقرار «الوجبة الثالثة» من العقوبات المشددة ضد إيران عبر مجلس الأمن الدولي!

غير أن العارفين ببعض خفايا الأمور، ومن بينهم مؤسسات غربية، باتت تفصح عن قراءاتها علناً، كما حصل أخيراً في تقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية. وأصبحوا يجمعون على أن الإدارة الأميركية الراهنة، وبما أنها عاجزة عن التفرغ تماماً للنزاع مع طهران وعاجزة أيضاً عن حسم هذا النزاع الذي بات بالنسبة إليها بمنزلة «الصداع المزمن» الذي لا تعرف له دواءً ناجعاً، لا بالسياسة ولا بالعسكر! فإنها قررت التعايش معه من خلال تحويله إلى «صداع مضاد» يؤرق النظام الإيراني، ومن ثم ترحيله إلى الإدارة الأميركية المقبلة!

وعليه، فإن المهمة الوحيدة المتبقية عملياً أمام الإدارة الأميركية الراهنة هي وضع العصي في دواليب أي عربة تحمل الحل المفترض لهذا الملف من أي جهة كانت، حتى وإن أتت من جهة يفترض بها أن تكون صديقة أو مطيعة أو على الأقل ليس في نيتها التمرد على القرار الأميركي أو التغريد خارج سربه! والدليل على ذلك هو عدم اقترابها من الملف النووي الإسرائيلي رغم مخالفته الصريحة والوقحة للمعايير الدولية كلها، ورغم كونه واحداً من أهم دواعي القلق والشك والارتياب الذي يحيط بأي مشروع نووي إقليمي بالمطلق، وكونه الصداع الحقيقي الذي يلف نطاق المنطقة برمتها!

إن واشنطن تعرف قبل غيرها، بل وأكثر من أي طرف آخر، أن العقوبات على نظام مثل نظام طهران الحالي لن تثنيه أولاً عن المضي في مشاريعه، وثانياً، وهو الأهم، أن ما آل إليه نظام طهران الحالي ما كان ذلك ليحصل إلا في ظل الحصار الأميركي المتواصل منذ ثلاثة عقود، وهو الذي حفز الطاقات المحلية جميعها من جهة وأجَّج روح الوطنية الإيرانية المتحدة ضد كل ما هو تهديد خارجي وأجنبي من جهة أخرى، كما أفسح المجال لإحياء قومية إيرانية قل نظيرها في التاريخ الإيراني الحديث!

وربما تكون واشنطن اكتشفت خطأها تجاه طهران متأخراً، وأنه بات من الصعوبة بمكان أن تعيد عقارب الساعة الى الوراء، ولما كان الحل الوحيد المتاح أمامها، كما قلنا، هو أن تتعايش مع هذا «الصداع المزمن»، فإنه يصبح من الطبيعي لإدارة مدججة بالغرور مثل إدارة المحافظين الجدد ليس فقط أن تنقل هذا «الصداع» إلى الطرف الآخر الذي غدا بمنزلة خصمها اللدود الذي يلاحقها كالظل، بل وتعممه على فضاءات المجتمع الدولي كله وذلك من باب «عليَّ وعلى أعدائي يا رب»، وكذلك كمَّن «أخذته العزة بالإثم»!

وهذا يعني الإصرار على إبقاء هذا الملف مفتوحاً وألا يتجرأ أحد على بلورة حل نهائي له أو إسدال الستار عليه، لأن إجراء كهذا لا يمكن أن يكون لمصلحة إدارة متورطة في كذبة لا تزال تعيش تداعياتها الخطيرة، وهي كذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية. كما أنها خسارة مؤكدة لقضية مزاعمها المتواصلة ضد طهران، التي ليس فقط لم تؤكدها حتى الآن أي جهة دولية معتبرة، لاسيما المعنية بهذا الملف، أي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مما سيكشف عملياً فساد هذه الإدارة سياسياً ومعنوياً وأخلاقياً وانكشاف تورطها في لعبة الأمم الاستخباراتية الشهيرة التي لا تعتمد إلا على حثالات الأقوام والشعوب من بؤساء ما يسمون بمعارضات الخارج الذين يتسكعون على أبواب أجهزة المخابرات الدولية لتوفير فرص عمل لطلاب الحروب، كما حصل للعراق الجريح والمستباح! وإن كانت مهمة هؤلاء تبدو هذه المرة أقرب إلى المستحيلة لأن الإنهاك يبدو سيد الموقف بالنسبة لأسيادهم!

*الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني