دلالات الكيان وتفسيراته

نشر في 22-04-2008
آخر تحديث 22-04-2008 | 00:00
 صالح بشير

الدولة العبرية تستنكف عن وصف نفسها بـ«جمهورية إسرائيل»، كأنها تعتبر أن نظامها السياسي لم يستقر على حال، وأنه نظام مؤقت أو في حالة استثناء، وهو ما يصح عادة على دول ترى نفسها في طور الإنشاء، تجسيداً لكيان لم يبلغ مرحلة الاكتمال لا يزال يُسعى إليها.

قد لا يُستفظع تعبير، من التعبيرات الرائجة في معجم النزاع العربي- الإسرائيلي، وهو ثري (إن اعتدلنا في توصيفه) أو مهذار (إن كنا إلى حقيقته أقرب)، أكثر من تعبير «الكيان الصهيوني»، تمقته إسرائيل، تعتبره بمنزلة محرقة رمزية أو بالقوة لا تنتظر إلا لحظة التفعّل، إنكاراً لوجودها، حلمَ إبادة تعذرت وسائله فاستُعيض عنه باللفظ وبالتمني، ويستنكره مناصروها والمتعاطفون مع «الدولة الصغيرة في بحر من العرب»، ويتحرج منه دعاة التسوية من الفلسطينيين والعرب، ينسبونه إلى طور لفظي فائق اللفظية في مقاربة القضية الفلسطينية، طغت فيه الشعارات أو أعمال تهتدي بتلك الشعارات، آلت إلى ما هو معلوم من إخفاقات ومن هزائم.

بل أضحى تعبير «الكيان الصهيوني» رمزاً لحقبة، لها وجه أحمد سعيد (أو بالأحرى صوته)، مذيع إذاعة «صوت العرب» الشهير، وسواه من مالئي الأثير والأسماع جعجةَ خطابة أيام «المدّ» (القومي أو الثوري) العتيد، كما أضحى التعبير ذاك ولا يزال، من وجه آخر ولدى الطرف المقابل، أجلى آيات امتناع العرب عن الإقرار بـ»حق إسرائيل في الوجود» والأمارة الأبلغ على تطرفهم. من ذلك، أن موسوعة ويكيبديا على الإنترنت، وهي قد لا تكون بالمرجع المعرفي الموثوق، ولكنها ذائعة الصيت يعول عليها الكثيرون من أبناء هذا الزمن في استخلاص ثقافتهم العامة، تورد، تحت مادة «كيان» (entity) معان وتعريفات مختلفة يغطيها ذلك المصطلح في شتى مجالات المعرفة من فلسفة ومنطق وقانون وما إليها، ولكنها لا تنسى أن تضيف إليها، حشرا قد لا يستدعيه السياق: «الكيان الصهيوني» أو «اليهودي»: تسمية شائنة لإسرائيل.

ولكن ماذا لو لم يكن ذلك التعبير مجرد أضغاث خطابة؟ ماذا لو تبين لنا، لدى التمعن فيه وتخليصه مما علق به من أدران الإيديولوجيا وتقريبيّ القول العربي وصاخبه، مكتسبا لشرعية ما، تستند إلى واقع حال الظاهرة الصهيونية وتاريخها وكيفية تفعّلها في منطقة الشرق الأوسط، حيزاً جغرافياً وتاريخياً، لا سيما وبالخصوص على حساب الشعب الفلسطيني؟

من شأن مَن يفعل ذلك أن يتوصل إلى استنتاج مؤداه أن تعبير «الكيان الصهيوني» أو «اليهودي» ليس تعبيراً وحيد المعنى، مفاده رفض الاعتراف بالواقعة الإسرائيلية والإصرار على ذلك الرفض فحسب، ولكنه يكتسب دلالة أخرى لدى مستعمليه، وإن لم يحسنوا دوما «مفهَمةَ» تلك الدلالة، أي صياغتها مفهوماً، ولا هم وُفّقوا في تعليلها، هي تلك التي ربما أفصحت عن «عسر التعرّف» على الواقعة الصهيونية، لمواصفات في هذه الأخيرة تجعلها تستوي، لدى الجانب العربي، إبهاماً.

بكلمة أخرى، لتعبير «الكيان الصهيوني» معنيين، ذلك المبتذل المعلوم، الذي يفيد رفض الاعتراف بالدولة العبرية، وآخر، لا يحتل الصدارة، مستتر بعض الشيء أو ضمني، ويفيد واقعة غير معلومة الهوية، يصعب التعرف عليها والوقوف على محدداتها، ليس لقصور في الإدراك، ولكن لأن الواقعة تلك تُحجم عن التحديد. وفق هذا المعنى، تُطلَق عبارة «كيان» على ما هو مجهول، غير معرّف، شأن قوة غيبية، أو جرم في الفلك، أو فاعل، يُستشعر، فعله ولكنه غير محدد.

عبارة «كيان» بهذا المعنى الأخير، وبصرف النظر عن مسألة حجب الاعتراف، هي أدق ما يمكن أن يهتدي إليه طرف محلي، عربي أو فلسطيني، في توصيف ظاهرة بالغة الشذوذ والفرادة، هي تلك المتمثلة في «حركة تحرر»، جاءت مما وراء الأفق المحلي وما أرساه التاريخ عرفاً وعادة، لـ«تحرر»، من الانتداب البريطاني ومن أهلها الأصليين، أرضاً ليست لها. ثم أنشأت دولة، جُرما كالأجرام المبهمة هي بدورها، تتسمى بذلك الاسم الأولي، «دولة إسرائيل»، دون مزيد إفصاح عن نفسها وعن طبيعة نظامها، ما دامت ليست بالجمهورية ولا بالمملكة. صحيح أن طريقة عمل تلك الدولة وديموقراطيتها الإثنية، يجعلانها تنضوي، في عداد الجمهوريات البرلمانية، يُختار رئيس حكومتها من الأغلبيات النيابية، يتولى السلطة التنفيذية في حين يكتفي رئيس الدولة، الذي يُنتخب انتخاباً غير مباشر، بوظيفة التمثيل الرمزي والبروتوكولي، ولكن الدولة العبرية تستنكف مع ذلك عن وصف نفسها بـ«جمهورية إسرائيل»، كأنها تعتبر أن نظامها السياسي لم يستقر على حال، وأنه نظام مؤقت أو في حالة استثناء، وهو ما يصح عادة على دول ترى نفسها في طور الإنشاء، تجسيداً لكيان لم يبلغ مرحلة الاكتمال لا يزال يُسعى إليها.

ثم أن الدولة العبرية لا تزال غير معرّفة الحدود، تمتنع عن ذلك وتحجم، في ما يتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة، في الضفة الغربية على وجه التخصيص، ولكن كذلك حتى في ما يتعلق بأراض انتزعتها من دولة قائمة، ناجزة الوجود، تحظى باعتراف العالم، هي سورية وجولانها المحتل.

هل يُستغرب والحالة هذه أن تلوح واقعة كتلك الصهيونية، حركة سياسية فدولة، للعرب وللفلسطينيين واقعة مبهمة، يتوجسونها تهديداً فوق ذلك، فلا يجدون من تعبير يسمّيها سوى «الكيان الصهيوني» وهي تسمية تبدو في هذه الحالة، وبصرف النظر عن حمولتها الخطابية المعهودة والجاحدة لوجود الدولة العبرية، تسمية دقيقة، تكاد تكون تقنية... قد لا تزول بمجرد إسباغ الاعتراف، بل عندما تطبّع إسرائيل علاقتها بالعالم وتصبح في عداده دولة عادية بين دوله، معلومة الهوية معلومة الحدود، لا توسعاً مضطرداً.

* كاتب تونسي

back to top