التعافي من أزمة كوسوفو

نشر في 20-04-2008
آخر تحديث 20-04-2008 | 00:00
كانت كوسوفو بمنزلة الذريعة لشن الحرب في العراق، حيث تبلور مبدأ التدخل لأسباب إنسانية في مبدأ «الحرب الوقائية» الذي ابتكره الرئيس جورج دبليو بوش، الذي بموجبه ادعت الولايات المتحدة لنفسها الحق في مهاجمة أي دولة تستشعر منها تهديداً لأمنها القومي.
 بروجيكت سنديكيت كان إعلان كوسوفو أخيراً لاستقلالها من جانب واحد سبباً في استحضار ذكريات قديمة. كنت قد عارضت علناً هجوم حلف شمال الأطلنطي على صربيا- وهي المهمة التي قام بها الحلف باسم حماية أهل كوسوفو من الفظائع التي ارتكبها الصرب في حقهم- في شهر مارس من عام 1999. آنذاك كنت عضواً في جبهة المعارضة- أو حكومة الظل- في مجلس اللوردات البريطاني. إلا أن وليام هيغ، الزعيم المحافظ آنذاك، سارع إلى نفيي إلى المقاعد الخلفية في مجلس اللوردات. وبهذا انتهت حياتي السياسية (القصيرة). ومنذ ذلك الوقت ظللت أسأل نفسي ما إذا كنت مصيباً أو مخطئاً حين اتخذت موقفي ذاك.

كنت أعارض التدخل العسكري لسببين. أولاً، رغم أن التدخل العسكري قد يفيد على المستوى المحلي، إلا أنه قد يلحق الضرر بالقواعد التي تحكم العلاقات الدولية كما كانت مفهومة آنذاك. فقد كان ميثاق الأمم المتحدة مصمماً بحيث يمنع استخدام القوة عبر الحدود الوطنية إلا في حالة الدفاع عن النفس وفرض الإجراءات التي يأمر بها مجلس الأمن. وهذا يعني أن حقوق الإنسان والديموقراطية وحق تقرير المصير ليست بالأسس المقبولة لشن الحرب.

ثانياً، كنت أزعم أنه بينما قد تبرز بعض الحالات حيث تكون انتهاكات حقوق الإنسان شديدة إلى الحد الذي يلزم المجتمع الدولي بالتحرك، بصرف النظر عن مسألة القانون الدولي، إلا أن كوسوفو لم تكن من بين هذه الحالات. وكنت أرى أن «الكارثة الإنسانية الوشيكة» التي كان التدخل العسكري يهدف ظاهرياً إلى منعها، ليست أكثر من اختراع. وكنت أزعم أن السبل غير العسكرية لحل القضية الإنسانية في كوسوفو لم تكن قد استُـهلِكت بعد، وأن مفاوضات رامبولييه الفاشلة التي أجريت مع صربيا أثناء شهري فبراير ومارس 1999 كانت طبقاً لتعبير هنري كيسنجر «مجرد عذر للشروع في القصف».

ولقد تأكدت وجهة النظر هذه في التقرير الخاص بانتهاكات حقوق الإنسان في كوسوفو، الصادر عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، الذي نُـشِر في ديسمبر 1999. فقد أظهر التقرير أن مستوى العنف قد انخفض بصورة ملحوظة بعد أن تم وضع مراقبي منظمة الأمن والتعاون في كوسوفو في أعقاب الاتفاق المبرم بين هولبروك وميلوسيفيتش في الثالث والعشرين من سبتمبر 1998؛ وأن انتهاكات حقوق الإنسان المنظمة لم تبدأ إلا بعد انسحاب المراقبين في العشرين من مارس 1999، للإعداد للقصف.

وبين مارس ويونيو 1999 - الفترة التي استغرقها القصف من جانب حلف شمال الأطلنطي- ارتفعت أعداد الوفيات والتفجيرات في كوسوفو بصورة هائلة. لقد أدت الحرب في واقع الأمر إلى التعجيل بحدوث «الكارثة الإنسانية». ورغم ذلك لم يكن تعبير «التطهير العرقي»، الذي تشدق به أنصار التدخل في الغرب، مناسباً في أي وقت من الأوقات.

مما لا شك فيه أن الغارات الجوية التي شنتها قوات حلف شمال الأطلنطي، ثم إدارة كوسوفو بعد ذلك باعتبارها تحت الوصاية الدولية، كانت سبباً في تحسن الموقف السياسي بالنسبة لألبان كوسوفو. فلولا تدخل حلف شمال الأطلنطي لكانوا قد ظلوا حتى الآن مواطنين من الدرجة الثانية في صربيا. وفي مقابل هذا يتعين علينا أن ننظر إلى التدهور الواسع النطاق في الوضع الاقتصادي لأهل كوسوفو كلهم من الألبان والصرب (حيث بلغت نسبة البطالة %44)، وانتشار الإجرام، فضلاً عن تطهير كوسوفو عرقياً من نصف أقليتها الصربية تحت حكم حلف شمال الأطلنطي.

ما زالت كوسوفو تعيش حالة من التيه السياسي حتى يومنا هذا. إذ يحكمها ألفان من مسؤولي الاتحاد الأوروبي، وتحرس أمنها قوة مؤلفة من ستة عشر ألفاً من جنود الحلف. أما «استقلالها» فقد رفضته صربيا، ولم يعترف به مجلس الأمن، وعارضته روسيا والصين وأغلب الدول ذات التركيبة الوطنية التعددية في أوروبا وآسيا، التي تخشى أن يكون استقلال كوسوفو بمنزلة السابقة التي تسمح بتفكيكها. حتى أن وزير خارجية روسيا، سيرجي لافاروف، سارع إلى إرجاع الاضطرابات التي شهدتها التبت إلى إعلان كوسوفو لاستقلالها.

ما زال العصيان الصربي والتقسيم الفعلي لكوسوفو من الأمور المحتملة، وما زال علينا أن نتعامل مع التأثيرات المزعزعة للاستقرار، والناجمة عن استقلال كوسوفو، على دول البلقان المقسمة الأخرى، مثل البوسنة ومقدونيا. ويتفاقم الخلل في التوازن حين نتحدث عن العلاقات الدولية. فقد كانت كوسوفو بمنزلة الذريعة لشن الحرب في العراق، حيث تبلور مبدأ التدخل لأسباب إنسانية في مبدأ «الحرب الوقائية» الذي ابتكره الرئيس جورج دبليو بوش، الذي بموجبه ادعت الولايات المتحدة لنفسها الحق في مهاجمة أي دولة تستشعر منها تهديداً لأمنها القومي. وكما أكد كوفي عنان، أمين عام الأمم المتحدة آنذاك، فقد فتح ذلك الباب أمام انتشار الاستخدام الأحادي غير المشروع للقوة.

من بين العواقب المدمرة التي ترتبت على مبدأ بوش أنه يتجاهل ضرورة إثبات النية العدائية. وعلى هذا فقد بنيت مبررات غزو العراق على أدلة ملفقة، كما حدث في كوسوفو.

في مجمل الأمر، أعتقد أنني كنت مصيباً حين عارضت حرب كوسوفو. فقد كانت الحرب بمنزلة استجابة رجعية لمشكلة دولية حقيقية: كيف نعمل على تلاحم الدول ذات العرقيات والطوائف الدينية المختلفة على نحو متحضر. منذ عام 1999 رفض أهل كوسوفو عروض الحكم الذاتي التي طرحتها صربياً، وذلك لأنهم كانوا على ثقة من الدعم الأميركي لاستقلال بلادهم.

يتعين على دول الغرب أن تفكر على نحو أكثر جدية في المدى الذي ينبغي عليها أن تذهب إليه في فرض أجندتها الخاصة بحقوق الإنسان على الدول بالقدر نفسه من القوة والإرادة الذي تتبناه في الدفاع عن سلامة أراضيها. ففي ظل الزعامة الأميركية برز الغرب باعتباره القوة المتحفزة المزعجة في عالم الشؤون الدولية. وربما كان لزاماً على الصين أن تمنح التبت قدراً أعظم من حكم الذات؛ ولكن هل من المعقول أن نتصور أن يكون تحويل الدلاي لاما إلى زعيم عالمي، أو التهديد بمقاطعة الألعاب الأوليمبية في بكين، هو الوسيلة الأمثل لتأمين صفقة أكثر عدلاً بالنسبة لأهل التيبت، أو الفوز بالتعاون من جانب الصين فيما يتصل بأمور أعظم أهمية من وضع التبت؟

لن تخطر مثل هذه الأسئلة على أذهان الناشطين المتحمسين لعدالة قضيتهم. ولكن زعماء العالم لابد أن يتعاملوا مع هذه الأسئلة بقدر أعظم من الجدية.

* روبرت سكيدلسكي، عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ فخري لمادة الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top