Ad

إن قصائد السجناء، تفصح عن أشياء كثيرة هي: كيف أن الإنسان الذي هو مقياس كل شيء، يتمسك حتى الرمق الأخير بالحياة: نعم الحياة والحرية وهما أغلى ما لديه، فهذه القصائد توخز الضمائر كي لا يلفّ النزلاء النسيان، ولعلها شهادات صارخة وحيّة على العذابات والحرمان والتمسك بالأمل!

هل تطوّق قصائد سجناء غوانتانامو السجانين وتنغّص عليهم حياتهم أم تراهم «تحجّروا» ولم تعد تحرك مشاعرهم المتبلّدة أي مأساة أو معاناة؟ أما الذين يصدرون الأوامر من خلف مكاتبهم الزجاجية، فرغم عدم اكتراثهم، فإن القلق قد بدأ يتسرب إلى نفوسهم، وقد لا يشعرون بطعم الراحة بعد أن أزيح شيء من النقاب عمّا يجري في سجن غوانتانامو، فما بالك والقصائد، رغم كل القيود، قد وجدت طريقها إلى الحرية والشمس، الأمر الذي طرح السؤال بصيغة قانونية لا تخلو من المساءلة: كيف السبيل إلى التخلّص من آثار التهم الخطيرة بالارتكاب وغسل الأيادي منها؟

لقد فاحت رائحة التعذيب الروتيني الذي يتعرّض له السجناء، الأمر الذي دفع بأوساط من الرأي العام الأميركي والعالمي لمطالبة الولايات المتحدة بالكشف عن حقيقة ما يجري في غوانتانامو والدعوة إلى إغلاق هذا السجن الرهيب، حيث يقبع فيه بضع مئات منذ 6 سنوات من دون محاكمات وأحياناً حتى من دون توجيه تُهم محددة سوى تهمة ضبابية هي «الإرهاب الدولي»!!

في شهر يناير 2002 نُقلت أول مجموعة من المعتقلين إلى سجن غوانتانامو الأميركي وهو قاعدة عسكرية استأجرتها الولايات المتحدة من كوبا منذ عقود من الزمان ولاتزال الاتفاقية سارية المفعول، حيث احتجز مئات الشباب من دون تهمة أو محاكمة وفي ظروف وأوضاع قاسية وغير إنسانية، ومنع عليهم الاتصال بذويهم خصوصاً في الفترة الأولى، ونقلت بعض الأخبار عنهم عبر معلومات صحفية أو من المعتقلين الذين تم إطلاق سراحهم، لاسيما عن صنوف التعذيب والإذلال التي يتعرض لها المعتقلون، بما فيها الاعتداء على المقدسات والإساءة إلى القيم والطقوس الدينية.

وحتى الآن لايزال أكثر من 250 معتقلاً محتجزين في غوانتانامو من دون أن يعرفوا ما إذا كان سيطلق سراحهم في يوم من الأيام بعد أن فقدوا الأمل، فقد غرق بعضهم في اليأس والقنوط وانتحر بعضهم الآخر أو حاول الانتحار، الأمر الذي جعل الكآبة مخيّمة على النزلاء والسجانين معاً «الضحية والجلاد»!! ومع أن السلطات الأميركية أعادت كثيرين من المحتجزين العرب إلى بلدانهم الأصلية فإنه حسب الإحصاءات المتوافرة التي قامت منظمة العفو الدولية بنشرها فإن ثلث المعتقلين من اليمن، وهناك عدد آخر من السعودية وليبيا والبحرين والأردن والسودان وتشاد وباكستان وزامبيا، بمن فيهم بعض من يحمل جنسية بريطانية وغيرها.

جدير بالذكر أن بعض المعتقلين نقلوا من قاعدتي قندهار وباغرام الجويتين في أفغانستان أو من معتقلات سرية في الولايات المتحدة وبعضهم من السجون السرية الطائرة في أوروبا، وذلك رغم احتجاجات منظمات حقوق الإنسان خصوصاً منظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان والمنظمة العربية لحقوق الإنسان وغيرها، لكن واشنطن كانت تتذرع بالحملة الدولية لمكافحة الإرهاب، يساعدها في ذلك صمت وتواطؤ بعض البلدان بما فيها التي ينتمي إليها من اتهموا بالإرهاب الدولي، ومع ذلك فإن الحملة الحقوقية الدولية والعربية لاتزال ضعيفة ومحدودة!!

ليست مشاعر الفزع والإحساس العارم بالظلم والمعاناة هي التي تطبع سلوك وعلاقات نزلاء غوانتانامو، بل هناك وجه آخر، وهو ما تعكسه قصائدهم من روح إنسانية فيّاضة وتشبث بالحرية وإصرار على تجاوز ظروفهم القاسية. لقد أصبح سجن غوانتانامو الأشهر في العالم بين المعتقلات القاسية باعتباره رمزاً للظلم وإهدار الحقوق، وإذا كان قد تم غضّ النظر عما يجري فيه أو تبريره أو الصمت عليه، فإن الأصوات المتزايدة في جميع أنحاء العالم، أخذت تلاحق الجناة، لاسيما تعارض تلك الانتهاكات السافرة مع المعايير الدولية للمحاكمات العادلة، وهذا الحق تكفله المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، كما أن النزلاء لا يتمتعون بأبسط أشكال الحماية التي تكفلها اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 وللقواعد الدولية لإدارة السجون، بما فيها عمليات «النقل الاستثنائي» و«الاختفاء القسري»، وما يترتب على ذلك من انتهاكات لأحكام القانون الدولي الإنساني!!

إن قصائد السجناء، تفصح عن أشياء كثيرة هي: كيف أن الإنسان الذي هو مقياس كل شيء، على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس، يتمسك حتى الرمق الأخير بالحياة: نعم الحياة والحرية وهما أغلى ما لديه، فهذه القصائد توخز الضمائر كي لا يلفّ النزلاء النسيان، ولعلها شهادات صارخة وحيّة على العذابات والحرمان والتمسك بالأمل!

كان «الشعر» لنزلاء غوانتانامو -حسب كراس أصدرته منظمة العفو الدولية عن دار الفارابي -2007 «وسيلة الحفاظ على الاتزان العقلي وصون الكرامة»، رغم أنه لم يسمح للمعتقلين خصوصاً في ظل العام الأول من استخدام الأوراق والأقلام، فراحوا يكتبون قصائدهم على أكواب من الفلّين المقوّى التي كانوا يحتفظون بها من وجبات الغذاء، أو يحفرون كلماتهم بالحصى أو يرسمون الحروف باستخدام معجون الأسنان، وكانت وزارة الدفاع الأميركية -البنتاغون- قد رفضت نشر معظم قصائد المعتقلين متذرّعة بأن هذا الشعر يشكّل تهديداً خاصاً «للأمن القومي» بسبب مضمونه وشكله وهو ما ذكره مارك فالكوف، المحامي المتطوّع للدفاع عن المعتقلين.

قصائد غوانتانامو تضمنت 21 قصيدة لشعراء أو لناظمي الشعر الحديث والكلاسيكي «5 من السعودية و2 أفغانيان و1 بريطاني و2 بحرينيان و1 تشادي و3 يمنيون و1 أردني و1 زامبي/جنسية بريطانية وواحد من السودان وهو الصحافي في تلفزيون الجزيرة سامي الحاج»، وهي قصائد تزخر بقيم الجمال والحرية والإبداع والألم والعذاب، ولعل ذلك جزءًا من أدب السجون الذي عرفناه، إنه جزء من المقاومة ضد النسيان وضد الظلام، ودفاع عن النفس وتطلع إلى الحرية، حلم أي سجين!!

* كاتب ومفكر عراقي