فضيلة التركيز الاستراتيجي

نشر في 07-07-2007
آخر تحديث 07-07-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد تمتع المصريون بأفضل مباراة للكأس منذ سنوات طويلة.

فاز الأهلي في مباراة الكأس، ولكن الزمالك كان أفضل. كيف ذلك؟

الأفضل فنياً في رأيّي كان الزمالك سواء من ناحية الروح القتالية أو من ناحية دقة التمريرات أو الخطة الهجومية. وظلت المباراة تعكس هذه الحقيقة معظم الوقت وحتى قرب نهاية وقتها الأصلي.

عاب أداء الأهلي «التسيّب» في التمرير وفي تطبيق الجُمل القصيرة التي حاول أن يلعب بها على الطريقة البرازيلية. كما عابه تشتت دفاعاته وسوء أداء حارس المرمى واللغو الواضح فى الهجمات المضادة. وكانت هذه هي تحديداً مزايا الزمالك معظم وقت المباراة: دقة التمرير وخاصة التمريرات الطويلة وتركيز دفاعاته والمباغتة والسرعة في الهجوم المضاد، الذي أسفر عن الأهداف الثلاثة التي قُصف بها مرمى الأهلي.

لماذا فاز الأهلي إذاً وكان الأقل معظم أوقات المباراة؟

يعود الفضل إلى الخطة الذكية، وبصفة خاصة يعود إلى التركيز حتى الشوط الرابع.

رغم أن التنفيذ كان أقل مما يجب لوصول الأهلي حتى لمجرد التوازن الأدائي، كفل له التركيز النصر في النهاية. فعلى عكس الزمالك اعتمد الأهلي، وخاصة في الشوطين الثالث والرابع من المباراة على تكثيف الهجوم، وليس على الهجوم المضاد وحده. كما اعتمد الأهلي على إرهاق دفاعات الزمالك الأكثر موهبة ليس عن طريق الهجوم من الأجناب كما قيل في التعليقات التلفازية، وإنما عن طريق الهجوم من الأجناب القريبة من الشباك أو من حائط الدفاع الزملكاوي الذي أصبح شيئاً قريباً من «حائط المبكى» بالقرب من نهاية المباراة بسبب الإرهاق ومتوسط السن الأعلى في الزمالك عنه في الأهلي.

كانت المباراة في الحقيقة تراوح في «موازين التركيز» حتى انقلبت هذه الموازين في النهاية لمصلحة الأهلي.

الحقيقة أن التركيز هو مفتاح النجاح في معظم، إن لم يكن كل، جوانب ومجالات الحياة. وهو أيضاً سر انهيار النظام العربي وفشله المريع في مواجهة التحديات. كعرب لا نفتقر الى الروح القتالية عندما ندرك إمكان الفوز، كما حدث فى حرب أكتوبر مثلاً. ولكننا سريعاً ما نفقد التركيز ويبدأ جهدنا وذهننا في التشتت، فلا نتابع هدفاً أو قضية واحدة حتى نهايتها لنصل إلى نتيجة جيدة نبني عليها فننجح في الوصول إلى هدف تال ٍ أو قضية أخرى مرتبطة.

 حالة التّشتت الاستراتيجي

وربما كان ذلك عيباً مهماً في ثقافتنا العربية الحديثة. فالتركيز أمر لا يأتي سوى عن طريق الاهتمام بالقيمة ذاتها وعبر عملية تدريب طويلة. فثقافات شرق آسيا لا تملك نصف أو ربع ما نملكه من ثراء وخصوبة ثقافية. غير أن ثقافتنا تنتشر في لوحة واسعة للغاية من الاهتمامات والتحديات والقضايا، ولم تستوعب فضيلة التركيز.

ثقافات شرق آسيا، وخاصة اليابان، ابتكرت شيئاً لم نطّلع عليه أصلاً ولم نهتم به كثيراً، وهم يسمونه الرياضات الروحية مثل الكاراتيه واليوغا، وجوهرها، هو تدريب الطبقة الحاكمة والمحاربين على فضيلة التركيز. ما تعلّمه هذه الرياضات هو استدعاء الطاقات الإنسانية كلها وتركيزها في الوعي واللاوعي حتى يصبح «ثاقبا» بالمعنى الحرفي للكلمة: أي بناء القدرة على الاختراق من أضعف مواقع الخصم.

وقد تعجب المؤرخون للتجربة الأميركية طويلاً: لماذا خسرت قبائل السكان الأصليين حروبها مع المستوطنين البيض، رغم أنها كانت أكثر تماسكا من ناحية التنظيم الاجتماعي وأكثر مهارة في التصويب وأكثر شجاعة في خوض المعارك من خصومها. واقترح بعض هؤلاء المؤرخين أن السبب قد يكون ضعف التركيز على المعارك لدى الهنود الحمر عن المستوطنين البيض الأوائل. فما إن تظهر فرصة لصيد الأبقار الوحشية حتى يترك الهنود الحمر المعركة ويذهبوا الى الصيد!

ويحكى أيضا عن نابليون قوله إن المماليك الذين حاربهم في مصر كانوا بدورهم أكثر شجاعة وأكثر مهارة من جنوده. ولكنهم افتقروا إلى التنظيم العسكرى الجيد. ولذلك كان بوسع أي مملوك محارب أن ينتصر على أي فرنسي بموازين المهارة، ويصدق ذلك على أي خمسة جنود مماليك بالمقارنة مع أي خمسة جنود فرنسيين، ولكن الأمر يتغير تماماً لو أن مئة جندي مملوك كانوا يخوضون معركة مع مئة جندي فرنسي، لأن التنظيم العسكري لدى الأخيرين كان أفضل من الأول. ويمثل التركيز الفضيلة التي افتقر إليها المماليك بدورهم، فخسروا الحرب وبنى عليها نابليون استراتيجيته العسكرية.

والتركيز الذي تحدث عنه نابليون لا يخص معركة واحدة وإنما كان يتحدث عن التركيز الاستراتيجي.

ويبدو أن اسرائيل تطبق هذا الدرس ضدنا بامتياز. إذ تغرق النظام العربي بفتح عشر معارك كل منها مهم بذاته، ولكن جوهرها، هو تشتيت انتباه وذهن القادة العرب الذين لم يتقنوا فن التركيز على المعركة الاستراتيجية وظلوا يجرون لإجراء إسعافات أولية في هذه الأزمة ثم تلك، فنسوا المعركة الجوهرية في حقبة الثمانينيات حتى صار من غير الممكن متابعة كل القضايا والمعارك الكثيرة التي تفتحت في العالم العربي، خاصة في عقد التسعينيات وحتى الآن. ويئس القادة العرب بالتدريج من متابعة أي واحدة من هذه المعارك فضلا عن نسيان متابعة القضية الأكبر. وحتى عندما نستشير مفكرينا العرب نجدهم يتحدثون عن عشرات القضايا دفعة واحدة. وكان مركز دراسات الوحدة العربية قد انخرط فى مشروع للنهضة يبحث فى تحقيق الاستقلال ضد التبعية والوحدة القومية ضد التجزؤ والديموقراطية ضد الاستبداد والنهضة ضد التخلف... الخ. ويعني ذلك أن نشتت جهدنا الضعيف ومواردنا القليلة على معركة تمتد في التاريخ والجغرافيا امتداد المحيط الهندي، ونبحر في هذا المحيط من القضايا والأهداف بمراكب من ورق!

ماذا يعنى ذلك بالنسبة لوضعنا الراهن؟

معناه قبل كل شيء أن نصل الى الاستنتاج السليم بالنسبة لمجموع المعارك الحالية، فنركز على ترتيب أولوياتنا تبعاً لهذا الاستنتاج لنصل إلى النتيجة المرغوبة على المستوى الاستراتيجي.

ولو قمنا بتحليل عميق للموقف لأدركنا أن الحلقة الرئيسية في السلسلة الراهنة هي في الحقيقة؛ العراق. رغم أن الحلقة الاستراتيجية أو الهدف الاستراتيجي هو فلسطين. وبتعبير آخر علينا أن نخلص إلى استنتاج يقول إن شيئا لن يتحرك حقيقة في المسألة الفلسطينية قبل أن تحسم معركة العراق. ويدعونا ذلك الى التركيز المؤقت على إحداث اختراق فى المسألة العراقية حتى يمكن إحداث اختراق في المسألة الفلسطينية.

لم نكن لنحتاج إلى خوض المعركة السياسية في العراق لو أننا كنا قد ركزنا كعرب أو كمجموع عربي على المسألة الفلسطينية في نهاية السبعينيات ثم طوال عقد الثمانينيات، ولو أن الرئيس العراقي السابق صدام حسين لم يورطنا جميعا في الحرب العراقية - الإيرانية ثم في غزو الكويت. كانت هناك فرصة مثالية لتوحيد سورية والعراق عام 1979 وكانت هناك فرصة مثالية لتأسيس جبهة عربية موحدة في التوقيت ذاته. وما إن توسد الرجل قمة السلطة في العراق حتى بادر بتدمير هذه الفرص وأضاع جهود بناء جبهة متماسكة حول المسألة الجوهرية، وهي فلسطين فشتت تركيز العرب وقسّمهم عندما قام بغزو إيران ثم الكويت، ففاتت الفرصة وجرينا كعرب وراء تناقضات ثانوية كان يمكن حلها دون إهدار التركيز على فلسطين. ولدينا الآن معارك وحروب أهلية في الصومال والجزائر والسودان ولبنان وفلسطين فضلا عن معارك دولية في العراق وفي فلسطين.

وهناك ارتباط ضمني بين هذه المعارك والأزمات. غير أن حل الأزمة العراقية قد يفتح الباب أمام حل مختلف القضايا والأزمات الأخرى وبالأخص فلسطين. المهم أن نحتفظ بتركيزنا الاستراتيجي على فلسطين من دون أن ننجر الى عشر معارك أخرى.

كاتب مصري

back to top