مازلنا نتعامل مع العالم بعقلية شيخ القبيلة الذي يؤمن بأنه العالم بأمر ربه ومالك رقاب الناس، ومازلنا نرى أن القتال هو الوسيلة الوحيدة لحسم الخلاف، وأن الحياة «يا غالب يا مغلوب»، وهذه العقلية إن نفعت في الصحراء وفي إدارة مجموعة من البسطاء فلا تنفع في القرن الحادي والعشرين وفي إدارة بلد من الكفاءات والخبرات.يتداول الناس نظريات عدة لتفسير الفوضى والغوغائية والتناقض الذي نعيشه في الكويت، بعضهم يعتقد أن هذا الوضع غير جديد وأن الكويت تاريخياً تعيش على بركة رب العالمين، وإن كان هنالك بعض الصحة في ذلك، إلا أن درجة التخبط والفساد الحالية غير مسبوقة. ففي الستينيات والسبعينيات كانت الكويت «درة الخليج» فعلياً، وكان لنا الصدارة على المستويات كافة رغم أنف التيار الرجعي والرسمي والبوليسي.
والنظرية الأخرى تقع ضمن نظرية المؤامرة حيث يرى البعض أن «الشرق الأوسط الجديد» في حكم الواقع، وأن مسح الكويت من الخريطة مسألة وقت لا شيء. وبالتالي، فإن العالمين بالأمر لا يبالون بمستقبل البلد لأنه محسوم، وهمهم الوحيد تحصيل ما يمكن جمعه من ثروات البلد. وهي نظرية منطقية إذا سلمنا بأن مشروع الشرق الجديد هو مشروع واقعي ويخدم القوى العظمى، ولكن هنالك شك كبير في ذلك في ظل التهديد النووي الإيراني والفوضى العراقية.
بعضهم يرى أن هنالك أيادي خفية تدير العرض خلف الكواليس بهدف إحراج وإفشال حكومة ناصر المحمد والجناح الإصلاحي في الأسرة – إن وجد - وحل مجلس الأمة إلى غير رجعة. خصوصاً أن نواب الشغب وأجهزة أمن الدولة تدار وتدعم من قبل الجناح الآخر، ورغم إغراء هذه النظرية، فإنه من الصعب أن أتصور أن هنالك من يخاطر بمستقبل بلد بالكامل من أجل نصر سياسي أو إرضاء غرور شخصي.
في نظريات الاحتمال يكون السبب الأقرب للصحة هو الأبسط، والسبب الأبسط في رأيي هو الغباء لا أكثر، فنحن لا نقرأ ولا نفقه التاريخ ولا نتعلم من أخطائنا، مازلنا نتعامل مع العالم بعقلية شيخ القبيلة الذي يؤمن بأنه العالم بأمر ربه ومالك رقاب الناس، ومازلنا نرى أن القتال هو الوسيلة الوحيدة لحسم الخلاف، وأن الحياة «يا غالب يا مغلوب»، وهذه العقلية إن نفعت في الصحراء وفي إدارة مجموعة من البسطاء فلا تنفع في القرن الحادي والعشرين وفي إدارة بلد من الكفاءات والخبرات.
إن العقلية القبلية هي ما وراء انعدام التخطيط ودكتاتورية السلطة والرغبة الجامحة لاستخدام القوة في فض أصغر الخلافات وأكبرها، ففي الصحراء القاحلة وظروفها الصعبة لم يكن هنالك حاجة ملحة للتخطيط، إذ الحياة بكامل تفاصيلها مرتبطة بالبيئة وتقلبات المناخ، وفي حال اشتداد الحال فالترحال، هو الخيار الوحيد، وفي ظل تلك الظروف لا يوجد مجال أو حاجة للاستشارة أو النقاش، كل ما احتجناه هو رأي «الشيخ» وخبرته الموروثة. ومن يشكك في قدرات أو سلطات هذا الشيخ يعرِّض القبيلة بأكملها للهلاك، وبالتالي، فإن العنف مبرر تجاهه.
ولكن الوقت تغير. فلم نعد تحت رحمة البيئة، فهنالك مجال كبير للاحتراز والتغيير لنبقى أسياد أنفسنا لا عبيداً للظروف، ولكن لا يمكن أن يملك شخص واحد المهارة والخبرة ليسيطر على المتغيرات وليضمن لنا البقاء والتطور، فنحن بحاجة إلى القوانين والنظم والدساتير واتباع النظريات المجرَّبة والناجحة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، الأهم... نحن بحاجة إلى بعضنا بعضا لنكامل خبراتنا ولنسدد خطى بعض. فهل سنملك يوما الذكاء الكافي لاستيعاب هذه الحقيقة البسيطة؟