سنة حلوة يا إعلان!
مع ستّة عقود تفصلنا عن صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ترانا في زمن أكبر انتكاسة لها منذ ذلك التاريخ... إذ يبدو الحديث عن حقوق الشعوب بالتنمية والرفاهية والبيئة السليمة... من باب التندّر، فمازلنا نتحدّث عن انتهاكات بالجملة لأكثر الحقوق الواردة في الإعلان.
في اليوم العالمي لحقوق الإنسان، نستذكر ونحصي ونتأمل، نستذكر العاشر من ديسمبر عام 1948 يوم صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، الإعلان الذي انبثق عن سنوات من الحروب والدمار المعمّم، وأصبح في ما بعد معياراً تقاس بموجبه سجلات الدول والحكومات في مجال حقوق الإنسان، نستذكر ما تضمنه الإعلان في مواده الثلاثين من حقوق أساسية تنطلق من مبدأ أن جميع الناس يولدون أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، على ما نصت عليه المادة الأولى منه، وأنه وإن لم يتضمّن صيغة الإلزام، فقد كان فاتحة لعشرات المواثيق والمعاهدات التي بنيت عليه، والملزمة نظرياً على الأقل، وأنه دشّن بداية مرحلة جديدة، تحوّلت فيها فكرة حقوق الإنسان من المجال الفكري والفلسفي، إلى المجال الإجرائي والعملي، وأُخرِجت من نطاق السيادي الداخلي، إلى ما هو كوني، يوحي بأنه يسير نحو بناء هوية إنسانية مصونة عالمياً. ونحصي على السواء، إنجازات ونكسات هذه المسيرة منذ ذلك التاريخ: عرفت الحركة الحقوقية في أرجاء كثيرة من المعمورة، نمواً وتطوراً مستمرين، وكثيرة هي الدول التي صادقت على المواثيق المعنية بحقوق الإنسان، وتعولمت أخبار تلك الحقوق بفضل الإعلام الفضائي وثورة الاتصالات، ونحصي أيضاً، انتهاكات لا عدّ لها ولا حصر وفي الأجيال الحقوقية الثلاثة، في مختلف دول العالم، وتربع دول عدة في منطقتنا العربية، ضمن تلك الأكثر انتهاكاً للحقوق، ومدى دخول حقوق الإنسان في دائرة الصراعات السياسية الدولية والداخلية، فالدول «تشهّر» ببعضها بسبب سجلات الانتهاكات التي ترتكبها، من منطلق العداء والتناحر، لا الحرص على الفكرة وتطبيقها. ونتأمل في مسيرة حقوق الإنسان العربي، انطلاقاً من الحركة الحقوقية في منطقتنا التي بدأت منذ أكثر من ثلاثة عقود، هذه الحركة التي خرجت من عباءة الحراك السياسي، مستخدمة في حراكها الحقوقي، مفاهيم وسلوكيات ومفردات سياسية، زادت من حشر فكرة حقوق الإنسان في زاوية السياسة، وإبعادها عن مكانها الطبيعي في الوعي الثقافي، وكرّس غربة هذه الحركة عن الناس، المتوجسين أصلاً من الفكرة. فباعتبار مفهوم حقوق الإنسان غربي النشأة، اعتبره كثيرون –وبتسويق من الدعاية الرسمية- تكتيكاً آخر للغرب من أجل سيطرة أكثر عمقاً، وللاعتبار نفسه، قال آخرون بعدم ملاءمته لخصوصيتنا الثقافية والدينية، وعمد غيرهم إلى محاولة التأسيس للمفهوم ضمن تراثنا الديني والثقافي، باعتباره السبّاق لتبني حقوق الإنسان وحمايتها. في أثناء ذلك، استمرّت الحكومات العربية في شجب انتهاكات حقوق الإنسان، في فلسطين ثم في العراق وغوانتانامو، كما استمرّت في شجب مفهوم حقوق الإنسان حين الحديث عما تمارسه هي من انتهاكات بحق مواطنيها، باعتبار ذلك شأناً سيادياً داخلياً إذا ما أتى من دولة أخرى، وإذاعة لأنباء كاذبة ومضللة توهن مشاعر الأمة، في حال أتى من نشطاء الداخل. واستمرّت الدول التي ساهمت في تشكيل منظومة حقوق الإنسان ومفاهيمها، بالسكوت، وأحياناً بتشجيع انتهاك حقوق الناس في دول أخرى، لغايات ومصالح متنوعة، وبعد الحادي عشر من سبتمبر، أصبحت الانتهاكات كونية، ومشرعنة إلى حدّ بعيد في قوانين استهدفت غايات سامية بطرق دنيئة، ولم يقتصر الأمر على الحكومات، بل امتدّ إلى الشعوب التي حصل لدى فئات منها ما يشبه الردة، فباتت تسكت عن الانتهاك أو لا ترى فيه انتهاكاً في الأصل. هذا في البلدان التي احتاج فيها مفهوم حقوق الإنسان حيث نشأ، إلى أجيال عدة كي يترسّخ في ثقافتها الاجتماعية والسياسية، أما في مثل بلداننا حيث المفهوم غير مؤسس له ثقافياً، فلاتزال فكرة حقوق الإنسان تواجه إشكاليات متنوعة ومتراكبة، تبدأ من الثقافي ولا تنتهي بالسياسي، وما أثير حولها عربياً من نقاش، زاد في إرباكها لدى الوعي الجمعي، مما أدى إلى ردود فعل تجاهها، حادة وملتبسة واستنسابية إلى حد بعيد. مواقف تحكمها خلفية ثقافية دينية أو قومية أو حتى عرقية وإثنية وطائفية، لكنها ليست خلفية إنسانية أبداً، تعتمد فكرة الحق الطبيعي الملاصق لكل إنسان لمجرد كونه إنساناً. وماذا فعلت «الحرب على الإرهاب» غير ترسيخ هذا الارتباك وتحويله حتى إلى يقين ذي معطى سلبي، بحقوق الإنسان، ومع ستّة عقود تفصلنا عن صدور الإعلان العالمي لتلك الحقوق، ترانا في زمن أكبر انتكاسة لها منذ ذلك التاريخ... بعد ستة عقود، يبدو الحديث عن حقوق الشعوب بالتنمية والرفاهية والبيئة السليمة... من باب التندر، فمازلنا نتحدث عن انتهاكات بالجملة لأكثر الحقوق الواردة في الإعلان، ومازلنا على إيماننا، بأن «لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولاسيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر...» كما تقول المادة الثانية منه.* كاتبة سورية