ديوجين أضاع مصباح الحقيقة في لبنان
إن العبرة التي يمكن استخلاصها من أحداث «الأحد الأسود» هي صرخة مكتومة في أفئدة اللبنانيين، كل اللبنانيين: نرفض الانجرار إلى مذبحة أهلية جديدة، ولن نسمح للتاريخ البشع بأن يعيد نفسه في بلدنا، مهما حاولت «الطوابير الخامسة» المتعددة الجنسيات التي تضيق بـ«خبرائها» أرض البلد.
يوم أحداث كنيسة مار مخايل، وقف اللبنانيون، للمرة الأولى، في مختلف أهوائهم ومشاربهم، وجهاً لوجه أمام الحقيقة العارية بوجهها البشع الذي يشبه إلى حد كبير وحوش الأساطير القديمة المتعددة الرؤوس والأرجل، وسرعان ما أدركوا أن هذا الوحش الأسطوري، الذي يمكن تسميته، من دون مبالغة، بالاقتتال الطائفي والمذهبي، لن يفرّق بين مسلم ومسيحي، ولا بين سنّي وشيعي، حتى ولا بين مسيحي ومسيحي.ولأول مرة، منذ بدء الأزمة، يتبارى اللبنانيون في الاحتجاج وإظهار الاستنكار مصحوباً بالرعب الظاهر، ما عدا بعض أصوات النشاز التي طلعت من هنا وهناك والتي فشلت في استخدام هذا الوحش الأسطوري لمصالحها الخاصة ومطامع من يقف وراءها.وفي قناعة اللبنانيين، فإن الشعور بالخوف، وليس «الإحساس الوطني»، وكذلك الرغبة في البقاء، وليس التدابير الأمنية، هو العامل الأول والأخير الذي دفعهم إلى إجهاض تطورات هذا الحدث وبالتالي منع امتداداته الكارثية. ولعل ذلك يشكل النقطة المضيئة في لوحة لبنان السياسية السوداء، والتي يجب السعي والعمل بكل الطاقات لتوسيع انتشار نورها، لأنها الأداة الوحيدة المتوافرة إلى الآن، لطرد شياطين الظلام أينما كانوا: في الأزقة، أو الشوارع والحصون، والسرايات، أو الثكنات العسكرية أو شبه العسكرية.ولعل جغرافية وقوع أحداث «الأحد الأسود» قد أعطت الدليل على وجود نقطة الضوء هذه، فكنيسة مار مخايل هي امتداد جغرافي لمنطقتين متجاورتين ومتنافرتين سياسياً منذ الحرب الأهلية هما: عين الرمانة والشياح. واللبنانيون بجيليهم، القديم والجديد، يملكون ذاكرة مازالت طريّة مليئة بالسمّ والدم، حول ارتباط الحرب الأهلية بهذه المنطقة، لأنها كانت مسرحاً لإطلاق الشرارة الأولى في تلك الحرب البشعة. لذلك فإن ما حدث في الأسبوع الماضي، وسرعة إجهاض هذا الحدث الخطير، لا يرجع إلى قدرة القوى الأمنية في السيطرة عليه، بل ربما لعبت بعض هذه القوى دوراً سلبياً عن غير قصد في إشعال الموقف... إن الفضل في إطفاء هذا الحريق يرجع إلى فارس لبناني تصدى لمبارزة الوحش بفروسية القرون الوسطى. وإذا أردنا أن نعطي هذا الفارس اسماً، فهو -من دون شك- يستأهل اسم «فارس الخوف». لذا، فإن السعي إلى تغذية هذا الفارس وتقوية عضلاته هو بمنزلة الحل الأمثل، ليس لأزمة اليوم، بل لأزمة الغد وبعد الغد. أكثر من ذلك، أثبتت أحداث «الأحد الأسود» أن شعارات «الوطنية والحرية والاستقلال» التي يتبارى الفريقان السياسيان في رفع أعلامها كانت عامل تفريق لا تجميع، وبالتالي ينطبق عليها القول الشائع: «كلمة حق يراد بها باطل». فالوطنية، في نظر رافعي شعاراتها من السياسيين باتت وجهة نظر لا حقيقة ثابتة المفهوم. والحرية تحولت إلى نغمة فولكلورية تقف عند حدود مصالح ومطامح رافعيها. أما الاستقلال فله عدة وجوه يختلف الواحد عن الآخر بنسبة اختلاف أهداف القبيلة السياسية عن الأخرى.وإذا كانت النظرية بحاجة إلى تطبيق لتخرج من إطار الفعل النظري إلى حيّز التنفيذ العملي، فإن ما حدث يوم الأحد كان من الضروري أن يحدث، لإثبات صدقية ومفعولية نظرية «الجنرال خوف» التي بات معظم اللبنانيين يؤمنون بها ويعتبرونها المنقذ الوحيد، بعد تحويلها إلى عمل إيجابي ينشر الأمن الجماعي بالحوار البنّاء، لا بالبندقية، وبـ«التخويف» الموضوعي، لا بحرق دواليب السيارات، وقطع الطرقات وتكسير الزجاج وغيرها من الأعمال غير المجدية. ولإثبات وجود هذه النظرة لدى اللبنانيين بالإمكان تقديم أكثر من دليل، فالفريق الغاضب على قطع الكهرباء -كما يقال- استخدم الأسلحة البدائية الجارحة ولم يستخدم الأسلحة القاتلة في التعبير عن غضبه، مع أن هذه الأسلحة القاتلة متوافرة بكثرة، لكنها بقيت في صناديقها المخبأة في جحور الظلام لليوم المشؤوم. وأما الفريق الآخر لم يواجه الغضب بمثله، كما كان يأمل «البعض»، بل التزم الصمت والهدوء والبقاء في البيوت، ليس لعجزه عن مواجهة الغضب بالغضب الأشدّ، ولا لأنه لا يملك السلاح القاتل أو التحريض السياسي أو الجرأة على القيام بالعمل المضاد... فعل ذلك نتيجة الخوف على الذات الخاصة والعامة والتي تعني تدمير البلاد كل البلاد.دليل آخر، أن «بعض» القيادات السياسية التي تنتمي إلى الشارعين المضادين سارع إلى التدخل الإيجابي، ونجح في استثمار مقدرة «الجنرال خوف» وتمكن من المساهمة في إعادة الهدوء إلى المنطقة المشتعلة، بشكل أثار الإعجاب والعجب معاً. كل ذلك له تحليل واحد وهو أن اللبنانيين، كل اللبنانيين، قد أعلنوا العصيان على طموحات زعمائهم وقادتهم، ووضعوا حدوداً فاصلة لتلبية رغباتهم: نتظاهر؛ نحرق الدواليب؛ نقطع الطرقات؛ نستخدم العصي والهراوات وليس الرصاص والقنابل كما حدث في الماضي الذي مازال طري الذكريات السيئة.باختصار، فإن العبرة التي يمكن استخلاصها من أحداث «الأحد الأسود» هي صرخة مكتومة في أفئدة اللبنانيين، كل اللبنانيين: نرفض الانجرار إلى مذبحة أهلية جديدة، ولن نسمح للتاريخ البشع بأن يعيد نفسه في بلدنا، مهما حاولت «الطوابير الخامسة» المتعددة الجنسيات التي تضيق بـ«خبرائها» أرض البلد.أشدّ ما أكره هو استخدام لغة الخطابة والوعظ، فهي مهنة لها أربابها تختلف عن مهنة الحبر والورق والتخبير والتحليل الموضوعي، وأعتذر إذا استخدمتها في بعض جوانب هذا الكلام، غير أن ما أريد أن أعظ به أجهزة إعلامنا هو العودة إلى مبادئ الرسالة الصحفية المقدسة، وبالتالي الابتعاد الكلي عن لعب دور المحرض في وطن يقترب فيه النار من الزيت يوماً بعد يوم، مع استجداء العودة إلى البحث عن الحقيقة المجردة. فعندما زارنا «ديوجين» الباحث الدائم الأسطوري عن الحقيقة حاملاً مصباحه الشهير أضاع هذا المصباح في ربوعنا، فلماذا لا نتكاتف، كإعلاميين، في التفتيش الدقيق للعثور على هذا المصباح وإعادته إلى صاحبه؟* كاتب لبناني