بينما تبدو «حماس» متلهفة إلى التهدئة، تبدو «إسرائيل» متمنعة عن القبول، وأتصور أن الطرفين غير صادقين في موقفيهما، إسرائيل ليست معنية بالتهدئة وليست حريصة عليها، فهي مستفيدة من وضع «اللاتهدئة» في غزة، إذ تستغل صواريخ «حماس» العبثية في تبرير الحصار الخانق الذي تفرضه على السكان كنوع من العقوبة الانتقامية من الشعب الأعزل، وهي تؤكد باستمرار عبر الغارات والمجازر الوحشية التي تستهدف المدنيين الأبرياء أن على الفلسطينيين أن يدركوا أن صواريخهم التي يطلقونها على البلدات الإسرائيلية لن تكون بغير ثمن، عليهم دفعه من أطفالهم ونسائهم، ثم إن إسرائيل تجد في الوضع المتوتر في غزة ما يعينها على زيادة وتعميق الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني والفلسطيني-العربي، وهو ما سمعناه ورأيناه عبر الفضائيات على لسان قادة «حماس» من توجيه اللوم إلى الطرف الفلسطيني الآخر والطرف المصري وكل العرب، وتحميلهم المسؤولية كما قال خالد مشعل في خطابه للقادة والحكام العرب «كل لحظة يموت فيها فلسطيني في غزة، دمه وروحه أنتم مسؤولون عنها أمام الله، إن لم تنصروا شعب فلسطين فإن الله لن يغفر لكم، وشعوبكم لن تغفر لكم» هكذا بكل بجاحة يتهم مشعل القادة العرب متناسياً مسؤوليته عن الوضع الكارثي لسكان غزة، وهو الذي نقض الأيمان الموثقة وانقلب على إخوة السلاح، وسجد شكراً بانتصاره على أخيه واحتفل بالتحرير الثاني لغزة!!

Ad

كما أن إسرائيل لها مصلحة استراتيجية في استراحة وضع اللاتهدئة لأنها تعتقد أن «حماس» تريد استغلال التهدئة من أجل «شراء الوقت وإعادة التسلح وتنظيم صفوفها استعداداً لهجومها المقبل على إسرائيل» طبقاً لما ذكره المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية في رفضه عرض «حماس» الأخير. ومن ناحية رابعة، توظف إسرائيل وضع الانقسام الفلسطيني للتهرب من استحقاقات عملية السلام التي انطلقت من مؤتمر «أنابوليس» لتقول للمجتمع الدولي وللراعي الأميركي لمفاوضات السلام إنه لا ضمان للسلام في ظل الانقسام الفلسطيني، أما بالنسبة لـ«حماس» التي تبدو راغبة في التهدئة إلا أن سلوكياتها تناقض تماما أقوالها وتصريحاتها، وهي أيضا تستفيد من الوضع المأساوي في غزة على عدة صُعد، منها استغلال هذا الوضع لتبرير فشلها وعجزها عن إدارة غزة من بعد انقلابها على «فتح» وانفرادها بالحكم، إذ عن طريق ما سُمي بسياسة «الهروب إلى الأمام» واتهام مصر والعرب تتنصل «حماس» من مسؤولياتها لترميها على الآخرين، لقد أصبحت خطة «حماس» مكشوفة يمكن التنبؤ بها مقدماً، فهي كلما تفاقم شعور العجز والإخفاق لديها، وزادت عزلتها دولياً وعربياً وأصبح الفشل يحيط بها من كل جانب -الشعب محاصر والخدمات متوقفة والمصانع معطلة والآلاف من العمال الفلسطينيين في بطالة، والكهرباء مقطوعة، ومعاناة سكان غزة في ازدياد، وهناك نقص مزمن في الوقود لدرجة أن محطات البنزين في غزة أصبحت مهجورة، مما اضطر أصحاب السيارات خصوصا الأجرة إلى ملء خزانات السيارات بزيت الطبيخ- تقوم «حماس» بإطلاق بضعة صواريخ على السكان الإسرائيليين في البلدات المجاورة لترد إسرائيل بانتقامها الوحشي فتصرخ «حماس» مهددة بتفجير الوضع واقتحام الحدود وتحميل مصر والعرب والمجتمع الدولي المسؤولية!! فينخدع بهم بعض الناس البسطاء الذين ينخرطون في مظاهرات تضامن «مدبرة» من قبل الإخوان والجماعات الدينية السياسية المتعاطفة مع «حماس» في الدول العربية، تخرج تلك المظاهرات لتستنكر وتندد وتتهم حكام العرب والدول العربية، وتنعى النظام السياسي العربي، وتقول: أين العرب؟ أين الحكام العرب؟! أين الرجال في زمن عزّ فيه الرجال؟! نحيي صمود الأبطال في غزة!! إلى متى التخاذل العربي؟ اكسروا الحصار وافتحوا الحدود أمام المجاهدين!! تقوم تلك المسيرات والتظاهرات بلوم كل الأطراف، بل اتهامهم بالخيانة إلا الطرف الأساسي المتسبب في كل تلك الكوارث «حماس» لا أحد من المتظاهرين يلوم «حماس» مطلقاً على صواريخها العبثية لأن حماس «مجاهدة» ومن حق المجاهد أن يفعل ما يشاء، فخطاياه مغفورة، ومن حق «حماس» أن تطلق الصواريخ كما تشاء، وعلى سكان غزة أن يصمدوا للهمجية الإسرائيلية ويدفعوا الثمن من دماء أطفالهم ونسائهم، وعلى الدول العربية أن تساند «حماس» مهما فعلت. هذا (التضامن) العبثي والمهلك، هو من الأدبيات السياسية لمفهوم التضامن الراسخ والسائد عند العرب!! والتي يمتلئ بها الفضاء الإعلامي العربي. لم أجد حتى الآن في تظاهرة أو اعتصام أو ملتقى للتضامن مع الفلسطينيين من يجرؤ على انتقاد «حماس» على مغامراتها الكارثية!! في الوقت الذي ينتقدون فيه كل الأطراف الأخرى غير المسؤولة!!

«حماس» من ناحية ثانية تستغل الوضع الكارثي في غزة لإثبات وجودها، وفرض شروطها على العرب والمجتمع الدولي، باعتبارها المعبر الحقيقي عن الشعب الفلسطيني، وصاحب الشعبية القادر على تقويض كل الجهود السلمية للحل، إذا لم تكن مشاركة فيها أو موافقة عليها، ولذلك كلما سارت عمليات التفاوض بين غريمتها «فتح» وإسرائيل بهدف تحقيق حلم «الدولتين» قدماً ورأت «حماس» إمكان نجاح عمليات السلام قامت بتخريب الوضع بإطلاق الصواريخ بهدف إفشال المفاوضات وعرقلة السلام، المهم لدى «حماس» هو إرسال رسالة واضحة إلى أميركا بأنها رقم صعب لا يمكن تجاهله، وأنه لا سلام ولا تفاوض إلا بشروط «حماس»، وهذا ما يفسر صمت «حماس» والتزامها بالتهدئة على امتداد 7 أشهر منذ انقلابها، بل تصريحات زعمائها المتكررة لطمأنة إسرائيل «لا هجمات من غزة»، لكنها بعد مؤتمر «أنابوليس» وانطلاق المفاوضات بين إسرائيل و«فتح» وخوفها من أن تحقق تلك المفاوضات «حلاً» من دونها قامت بالتحرش بإسرائيل بهدف قطع الطريق على المفاوضات، وفرض الأمر الواقع على المجتمع الدولي، وقد نجحت جزئيا في هذا الهدف، بدليل أن طيب القلب المحب للسلام «كارتر» جاء إلى المنطقة أخيرا بعد أن صدق تصريحات «حماس»، وزار القاهرة ودمشق وقابل «مشعل» وزعماء «حماس»، وعانقهم وسمع منهم كلاماً طيباً ووعوداً وعاد ليقول: لا مفاوضات سلام من دون مشاركة «حماس» كنوع من المناكفة للإرادة الأميركية التي عزلت «حماس».

ومن ناحية «ثالثة» فإن «حماس» مثلها مثل «حزب الله»، إذ لا تملك قرارها الكامل بسبب ارتباطاتها بإيران تضطر إلى تنفيذ أجندة خارجية ولو على حساب الداخل. لقد تحول سكان غزة إلى «رهائن» بيد الطرفين اللذين يستغلانهم لخدمة أهدافهما السياسية، لكن السؤال المطروح اليوم: ما الذي جعل «حماس» وهي التي ما فتئت تتهم وتخوّن كل يوم «عباس» أنه فرّط وضيّع، وأنه لا شرعية له، وأنه بتفاوضه «وفّر الذريعة والغطاء لمجازر إسرائيل ضد شعبنا»!! ما الذي جعل «حماس» تعرض «التهدئة»؟ وما الذي جعل «الفصائل» الفلسطينية تتوافد إلى القاهرة وتتوافق على الخطة المصرية للتهدئة؟!

هناك جملة من المتغيرات الضاغطة على «حماس» والفصائل المتحالفة معها والتي تسير في ركابها، منها أن إسرائيل وجهت ضربات موجعة للجماعات الجهادية، وبدأت باستهداف قادتها، وكانت تصفية الثعلب الاستخباراتي مهندس عمليات «حزب الله» (مغنية) رسالة بليغة لقادة «حماس» الذين تواروا بعدها عن الأنظار، واختفوا تحت الأرض، فمن يستطيع الوصول إلى «مغنية» في عرينة المحصّن لا يصعب عليه الوصول إلى قادة الفصائل المكشوفين. ومنها: أن شعبية «حماس» وصلت إلى الحضيض وتزايدت عزلتها عربياً ودولياً، بسبب عجزها وفشلها بعد انفرادها بالسلطة في غزّة لدرجة أن أهالي غزة يريدون الفرار منها إذا سمحت الظروف، ومن هو خارج منها لا يود الرجوع إليها في ظل الظروف الحالية.

ومنها أن كل محاولات «حماس» لفرض «الحوار» على عباس على أساس الأمر الواقع فشلت، وآخرها المبادرة اليمنية. ومنها: أن مصر بدأت بممارسة ضغوطها على الفصائل، وإذا كانت «حِكمة» مبارك استطاعت معالجة الوضع الكارثي لسكان غزة حينما أرادت «حماس» تصدير أزمتها إلى مصر وتوريطها إلا أن مصر كانت حاسمة في وضع حد لاقتحام الحدود ودفع النساء والجموع البشرية وفرض الأمر الواقع مرة أخرى، ولكن ما الذي يجبر إسرائيل على قبول التهدئة؟

لا شيء غير الضغوط الأميركية بالتهدئة، فقد أعلنت إسرائيل أن الولايات المتحدة تمارس ضغوطاً متزايدة للتوصل إلى صفقة لوقف إطلاق النار مع «حماس» في قطاع غزة، خصوصاً قبيل جولة بوش المقبلة إلى المنطقة في «14 مايو» والتي تتزامن مع الجهود التركية في الوساطة بين سورية وإسرائيل لعقد اتفاقية سلام تسترجع فيها سورية «الجولان».

ستتم صفقة «التهدئة» بفضل الوساطة المصرية والضغوط الأميركية، لكن هل لها مستقبل؟! أشك في ذلك كثيراً.

* كاتب قطري