إن المراقب للمشهد الشعري (العامي) يصاب بالإحباط لحالة النكوص التي وصل إليها...
أصبحت القصيدة العامية ليست أكثر من نفخ الهواء في ذات الشاعر، أو تمجيد لقبيلته...أومشاعر سطحية ساذجة لا تعكس تجربة إنسانية ثرية! القصيدة العامية أصبحت: زعيق يملأ الميكروفونات، دخان، وأشلاء جثث، وأغلفة رصاص، وآثارٌ طازجة لمعركة «دنكوشتيه»...!! عبارات «سافلة» لمخاطبة الحبيبة (أو الحبيب)! مشاعر يعتريها العطب، طغت النعرة القبلية على شفافية الشعر والشعور، تعرّت الدولة من ورقة توتها وثوبها المدني الرقيق، لتكشف عن روحها القبلية الشرسة، وتجلت هذه القبليّة في أسوأ صورها من خلال ما يكتب الآن من شعر عامي، يقف الشاعر شامخاً على «راس ضلع» ليكيل أنواع الشتائم والسباب للحبيبة التي لم ترد على اتصاله «الغثيث» مثلا، مما تسبب في إهدار كرامته وعزته ومجد قبيلته وتدنيسها في التراب (على حد زعمه)!! لذا يصرخ بالقبيلة أن تسرج خيولها، وتدجج فرسانها، وتسل سيوفها لأخذ الثأر من تلك الحبيبة! يشارك أحدنا في مسابقة ثقافية ما، معتقداً أنه يملك المؤهلات الإبداعية الكافية التي تمكنه من الفوز بهذه المسابقة، فإذ به ومنذ البداية يصرخ طالباً النجدة و«الفزعة» من القبيلة التي تثور في دمائها نار الحمية فتهب ممتطية خيول التكنولوجيا الحديثة لتنقذ ابنها من العار! بل ان الدولة وعلى أعلى المستويات الرسمية تهب عن بكرة أبيها، وتذلل كل العقبات وتسهل الإمكانات لتخليص ابنها من هذه الورطة، ليخرج مرفوع الرأس، فتتحوّل الدولة بكل مؤسساتها المدنية وسماتها الحضارية إلى... قبيلة، خصوصاً عندما يصبح التنافس بين أحد أفرادها، وفرد آخر من قبيلة _ أقصد دولة_ أخرى!! والسؤال هو: كيف وصلت القصيدة – والحالة الثقافية بوجه عام- لهذه الحال؟! والإجابة باعتقادي هي بسبب عملية «القطعنة» التي مورست علينا خلال العقود الماضية من قبل «الدولة»، وتحويلنا إلى قطيع، فلقد تم تفريغ الجو العام من جدل الأفكار المختلفة والمعاصرة، وإلزامه بالسير في اتجاه السلف «الصالح» واجترار فكره، ظناً من هذه الدولة أن هذا هو الطريق الآمن المؤدي لواحة الراحة، وفاكهة السلام!! إن هذا السلوك الذي مارسته الدولة هو سلوك قبلي لا يمتّ لمفهوم الدولة الحديثة بصلة، بل ان هذا السلوك بالذات قادنا إلى محرقة القبيلة، و«الأنا» المتمرغة في رمادها، واستعدنا مفاهيم مثل الكرامة والعزة بشكل مشوّه يسبب الغثيان، وحاولنا تسخيرها ضد المعطيات الواقعية المعاصرة، لدرجة أننا أصبحنا نستنجد بالقبيلة ونستفزع بها لكل شيء ولأي شيء! تكرَّسَ انتماؤنا القبلي بعد أن عجزت الدولة الحديثة عن استيعابنا تحت مظلتها، وسبب العجز هو عدم إيمان هذه الدولة أصلاً بالتنوع والاختلاف في الرأي والفكر والقناعة، فبقينا مجتمعات عشائرية وقبلية، يدين كل منا بفضائله الإبداعية للقبيلة، التي بدورها تكافئنا بالدعم والمساندة، والوقوف بجانبنا في كل الظروف والمناسبات الصغيرة منها والكبيرة، في غياب الدولة الحديثة المعاصرة. إن أجمل ما في الإبداع تنوعه، واختلاف الزوايا التي ينظر منها، وأجمل من ذلك القدرة على التعبير عن هذا التنوع، أما الأجمل على الإطلاق فهو الحرية المتاحة للمبدع في التعبير كيفما شاء عن لون عينيه التي تصوّر الأشياء! والإشكالية هنا... أن الفكر القبلي لا يعي أهمية أن تتلون الأزهار، وأن يختلف عطرها، ولا يدرك رحمة تعدد ألوان الحبر، ولا جمال أن يكون لضوء القناديل أكثر من لون، القبيلة تعتقد – خطأ - أن تعدد النجوم يصيب النظر بعمى البصر الليلي، ويشوه منظر السماء، وأن قوس قزح غلطة فادحة ارتكبتها الطبيعة...ويجب تصحيحها!
توابل - الرواق
آخر وطن
28-06-2007