تنفي الوقائع التاريخية التي يرويها إسماعيل سيد إمام أي احتمال لأن تكون وثيقة «ترشيد العمل الجهادي» قد كُتبت تحت إكراه، فهو يشرح في هذا الجزء من حواره المهم مع «الجريدة» الأسباب التي دفعت والده المعروف باسم الدكتور فضل إلى الابتعاد عن تنظيم «جماعة الجهاد»، حتى وصل إلى الاستقالة نهائياً من العضوية، وفي مقدمة هذه الأسباب رفضه الصِّدام مع السلطات المصرية منذ كان في باكستان عام 1993.

Ad

وتبدو السمات الشخصية للدكتور فضل واضحة من روايات أقرب الناس إليه فهو، كما هو واضح، يعتز باستقلالية شخصيته، ما شجعه على توجيه النصيحة لأسامة بن لادن بأن يظل في وطنه ولا يغادره في وقت كان الجميع يخطب وده، بل إنه حين غادر السودان بأسرته لقطع صلته نهائياً بكل هذه الأوساط، كان انتقاده الرئيسي لـ «بن لادن» أنه شخص لا يسمع إلا نفسه.

ويكشف إسماعيل أن «القاعدة» حاول بعد تأسيسه استرضاء أبيه للانضمام إليه، لكنه أصر على الرفض بعد أن اختار الابتعاد عن كل التنظيمات، وخاصة عن أيمن الظواهري رفيق عمره الذي تعلم من كتبه ومحاضراته، ثم أمر بتحريفها.

إنها تراجيديا جيل كامل من الإسلاميين جسدت في قصة هذه الأسرة، وهي تنتقل بين المدن التي يرويها أحد أبنائها.

وفيما يلي نص الجزء الثاني من الحوار:

• كيف حدث الخلاف بين الدكتور فضل وتنظيم «جماعة الجهاد»، وما أسبابه؟

- كان الدكتور أيمن الظواهري هو الذي يبدو في الواجهة، كونه اكتسب بعض الشهرة أثناء بياناته التي ألقاها للإعلام أثناء محاكمة تنظيم الجهاد في مصر، إلا أن والدي وفي عام 1991، أثناء اجتماع عام للجماعة، اشتكى أن الإخوة أصبحوا يشغلونه بأمور كثيرة حتى بمشاكلهم الشخصية، وأراد أن يقطع صلته بهم، مبرراً ذلك بأنه أصبح مشغولاً بشكل يمنعه من متابعة أمورهم، وأنه يريد التفرغ للعلم الديني وعمله كطبيب، وقد وافق الإخوة على ألا يشغلوه بالمشاكل وطالبوه بأن يبقى مرشداً شرعياً لهم.

وتكرر هذا الأمر عام 1992، وفي نفس العام خرج الشيخ أسامة بن لادن من السعودية قبل منعه من السفر، وذهب إلى باكستان، وأخبر والدي أنه كان سيُمنع من السفر وأنه سيسافر إلى السودان، فنصحه والدي بالعودة إلى السعودية وأن يدعم الأنشطة الإسلامية بما يستطيع، وقال له والدي إذا ذهبت إلى السوداني برغم منعك من السفر في السعودية فستعيش مطارداً طوال عمرك، وأنت لم تجرب الغربة ونحن جربناها.

• هل ابتعاد والدك عن إمارة التنظيم هو السبب لمغادرته الأراضي الباكستانية؟

- حدث في هذه الأثناء أن وصلت بنظير بوتو إلى رئاسة الوزراء في باكستان، فتم التضييق على العرب، وتم اعتقال عدد كبير منهم، فاضطر والدي إلى اعتزال العمل العام وتغيير السكن وجعله سرياً، بل أصبح يوصلنا بنفسه إلى المدرسة كي لا نشترك في «الباص» وتتم معرفة مكاننا.

وإزاء هذه الظروف من توقف والدي عن العمل والتضييق على العرب في بيشاور، اضطر والدي إلى مغادرة بيشاور واصطحبنا إلى مدينة جبلية جميلة اسمها (منسهرا)، وكان هذا في فترة الإجازة الصيفية لنا عام 1993، وقد أقام معنا في نفس المدينة الأخ أبو خالد (عبدالعزيز موسى الجمل).

أثناء وجودنا في منسهرا عام 1993، كان أغلب الإخوة قد سافروا وذهبوا إلى السودان أو اليمن أو غيرهما، وكان والدي قد قطع صلته بالإخوة قبل ذلك، نظراً لإصرارهم على الصدام مع الحكومة في مصر، وهو كان يرى أن هذا خطأ ولن يؤدي إلى فائدة. الإخوة لا طاقة لهم بذلك، وكان يرى أن الاشتغال بالدعوة والإصلاح أنفع لهم، فأصروا على الصدام فلم يحققوا فائدة، بل أضرار كثيرة، وأثبتت الأيام صحة رأي والدي فقد انهار التنظيم وانتهى.

• ومع هذا فإنه لحق بهم إلى السودان كما هو معروف. أليس كذلك؟

- في أواخر عام 1993، غادرنا باكستان نهائياً وللمرة الأخيرة، وذهبنا متوجهين إلى السودان، واستقبلنا في مطار الخرطوم الدكتور أيمن الظواهري والأخ محمد صلاح، وتوجهنا إلى عمارة كانت قد أجرت بالكامل لحساب الإخوة، وكنا أول الساكنين بها، وتقع هذه العمارة في حي الطائف في الخرطوم، وكان في نفس الحي مضيفة الإخوة، أو ما يمكن أن نسميه مقر الجماعة، وكان على بعد مسافة قريبة عمارة أيضاً مؤجرة للإخوة بالكامل ويسكن فيها الدكتور أيمن، وقد كان معنا في نفس العمارة الأخ عبدالعزيز الجمل والأخ أبو ياسر وشقة تعتبر مكتباً ثقافياً وإعلامياً للتنظيم، وسكن معنا في المبنى بعض الإخوة الآخرين.

في هذه الفترة كان الوالد متفرغاً بالكامل لكتابة وإعداد كتابه الضخم «الجامع في طلب العلم الشريف»، ولم يكن يمارس عمله كطبيب، وكان ذلك باستطاعته، لكنه آثر التفرغ لإتمام الكتاب، ولم تقع خلال تلك الفترة أحداث مهمة سوى حادث محاولة اغتيال الشيخ أسامة بن لادن، وإصابة مرافقه في المضيفة، وقد قام والدي وقتها بعلاجه وعمل له عدة عمليات له ولآخرين، ولم يُصب الشيخ بأذى كونه كان غير موجود في المضيفة وقت الهجوم عليها.

وقد قطع والدي صلته بأسامة بن لادن عام 1994، وقد قال والدي حينها إن بن لادن لا يستمع لنصائح أحد ولا يستمع إلا لنفسه.

• ما المحطة التالية للأسرة بعد السودان؟

- كان الوالد ينتظر أن نتم العام الدراسي كي يسافر إلى اليمن، ليبتعد عن الإخوة لما علم بصدامهم مع الحكومة في مصر، لكن قيام حرب الانفصال وقتها في مايو 1994، جعلنا نؤجل هذا المشروع إلى ما بعد انتهاء الحرب، وكنا وقتها نتخوف من هزيمة قوات الشمال وانتصار الاشتراكيين، فهذا يعنى عدم إمكان السفر إليها، كون النظام في الشمال يسمح للجهاديين بالدخول، بل وكان الجهاديون اليمنيون الأفغان هم خط المواجهة الأول في الحرب ضد الاشتراكيين.

انتصرت قوات الشمال وترسخت الوحدة اليمنية، وعليه قررنا السفر إلى اليمن ووصلنا إليه في سبتمبر عام 1994، وجلسنا في صنعاء لمدة شهر، وبدأ والدي بالبحث عن عمل وقابل وقتها وزير الصحة بوساطة الأخ عبدالعزيز علي (أبو أسامة)، وهو من قدامى الإخوان المسلمين المسؤولين الذي وافق له على العمل في أي مستشفى يرغب فيه، لكن المسؤولين الذين كانوا من الحزب المنافس الذي شكل الحكومة الائتلافية، عرقلوا الأمور.

وسافرنا إلى مدينة إب جنوب صنعاء، وهي مدينة جبلية متوسطة، ولما كانت الموافقة لوالدي على بداية العمل قد تأخرت، فقد تقدم للعمل في مستشفى الثورة الحكومي متطوعاً بدون أجر، وعمل فيه ما يقارب خمسة أشهر، وهناك ذاع صيته بشكل كبير لمهارته الطبية وأخلاقه العالية مع الناس والمرضى، وكونه من النادر أن يعمل أي شخص تطوعياً من دون أجر، وهذا ما جعل عروض العمل تنهال عليه، بل إن مدير مستشفى الثورة شخصياً ذهب إلى الوزارة في صنعاء ليعمل له المعاملة كي يتم توظيفه، وأحضر الموافقة النهائية، إلا أن والدي استقر على العمل مع مستشفى دار الشفاء الخاص وظل فيه حتى اعتقاله.

• في تلك الفترة، هل قطع الدكتور سيد إمام صلته نهائياً بالتنظيم؟

- كتب والدي كتاب (الجامع في طلب العلم الشريف) عام 1993، بعدما قطع صلته بجماعة الجهاد لينفع به المسلمين، وأعطى نسخة منه إلى جماعة الجهاد ليتعلموا منه، وكان فيه نقد للحركات الإسلامية لم يعجبهم، فحذفوا أشياء كثيرة من كتاب الجامع ووضعوا له عنواناً آخر ونسبوه لأنفسهم، واتهمهم والدي بالسرقة والكذب والغش وخيانة الأمانة، وقال والدي إن الذي فعل هذا كله هو الدكتور أيمن وحده بشهادة الأخ أبو طلحة، الذي كان يكتب الكتاب على الكمبيوتر برغم تحذير والدي لهم من القيام بمثل ذلك.

أدى ذلك إلى مقاطعة والدي نهائياً لجماعة الجهاد، بل إنه رفض مقابلة الدكتور أيمن عند حضوره إلى اليمن عام 1995، على الرغم من طلب الدكتور أيمن ذلك وإلحاح الإخوة على أن تتصل علاقتهم بوالدي.

• كيف تصف علاقة والدك مع الظواهري باعتبارهما رفيقي عمر تحولا إلى خصمين؟

- هناك الكثير عن علاقة والدي والدكتور أيمن الظواهري، ربما لأن هذه العلاقة كانت مجهولة ومرت بمراحل كثيرة، ولميل الدكتور أيمن إلى العمل التنظيمي أكثر وتفضيل والدي للعزلة والتبحر في العلوم الدينية، وكان لهذا أكبر التأثير على علاقة والدي والدكتور أيمن، فوالدي تولى بشكل شبه كامل إصدارات التنظيم وإصدار الكتب الكبيرة، التي اعتبرت مرجعاً ليس للتنظيم فحسب بل ولكل الجماعات الإسلامية الجهادية في العالم، فقد صاغ في تلك الكتب رؤيته للجهاد وما يتعلق به وأفكار أخرى كثيرة كانت بمنزلة الدستور لجماعة الجهاد، وكان الدكتور أيمن بمنزلة المدير التنفيذي لتلك السياسات بعد الاتفاق عليها، لما له من قدرة أكبر على العمل الحركي ولعدم تفرغ والدي لذلك، ولم تقتصر علاقة والدي مع الدكتور أيمن على مرحلة معينة بل استمرت منذ عام 1968، وحتى عام 1994، أي بما يزيد على ربع قرن، ومرت بالكثير من المراحل المختلفة كما تطرقت سابقاً، وأجزم أن أحداً من الإخوة الآخرين لم يعرف الدكتور أيمن كما كان والدي يعرفه، من الدراسة إلى العمل الحركي إلى الهروب خارج مصر وإحياء جماعة الجهاد، حتى أنهما لم يفترقا في القضايا التي تمت محاكمتهما فيها.

• نعود إلى الدكتور فضل في حياته الجديدة باليمن، كيف سارت وماذا كان يفعل؟

- تغيرت حياتنا في اليمن بشكل كبير، حيث انقطعت علاقتنا بالإخوة الذين لم نعرف غيرهم قبلاً، وبدأنا نندمج مع اليمنيين، أيضاً اللغة كانت عامل تأثير كبير في الاندماج بعكس وضعنا في باكستان.

في اليمن لم يستعمل والدي الاسم القديم (الدكتور فضل) وإنما استعمل اسما جديدا هو عبدالعزيز الشريف، واشتهر باسم (الدكتور عبدالعزيز) وعرف به في الأوساط العامة، وكوّن والدي علاقات واسعة مع مختلف الجهات والأشخاص فقد كان أشهر طبيب في وسط اليمن كلها، فالبيئة الطبية في اليمن هي بيئة مازالت تحبو وتنقصها الكوادر الخبيرة المؤهلة، وكان والدي ذا خبرة عالية خاصة في الجراحات الحربية، وهي كثيرة في اليمن بسبب انتشار حمل السلاح، وكان الناس يحضرون إليه من محافظات أخرى، ليس فقط للخبرة والمهارة، لكن للتعامل الحسن مع الناس وتعاونه مع البسطاء وتخفيض تسعيرة العمليات وأحياناً عمليات مجانية، وهذا ليس مبالغة مني بل هو واقع عاشه الناس في إب، بل إن الناس كانوا يستغربون ويقولون لماذا جاء والدك إلى اليمن؟ إنه بخبرته هذه يشتغل في أحسن مستشفى في الخليج أو في أوروبا، وكان بوسع والدي أن يعمل لجوءاً سياسياً في أوروبا بعد باكستان في 1993، لكنه كان لا يفضل العيش في الدول الأوروبية.

في هذه الفترة بدأت ما يعرف بقضية (العائدون من ألبانيا)، التي حكم فيها على والدي في إبريل 1999، بالسجن المؤبد، وكان ترتيبه فيها رقم (22) مع العلم أنه لم يذهب إليها أبداً.

• ألم تحدث محاولات لعودته إلى التنظيم، وهل توقفت الاتصالات نهائياً بين الجانبين؟

- في تلك الفترة ومع تأسيس الشيخ أسامة بن لادن للجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين (القاعدة) 1998، أرسل الأخ أبو حفص المصري رسالة إلى والدي وللأخ عبدالعزيز الجمل، يلح فيها عليهما بالانضمام إليه في أفغانستان، وأرسل مواد صوتية وفيديو تحثهما على ذلك، إلا أنهما أصرا على اعتزال العمل الحركي، واعتذرا عن تلبية طلبه مع استمرار العلاقات العامة من دون انضمام إلى تنظيمات معينة.

واكتفى والدي في تلك الفترة بعمله كطبيب، ومواصلة دراساته الإسلامية، وعلاقته الضيقة جداً مع بعض الإخوة، ومتابعة الأخبار من على بعد.

في تلك الفترة وصل والدي إلى قناعة بعدم جدوي العمل ضمن حركات بشكل عام ضد الدولة، وقام بإبعادنا بشكل تام عن العمل السياسي والحركي، وجعلنا نركز على دراستنا بشكل عام، وتربيتنا تربية دينية بعيداً عن الأفكار السياسية والعمل الحركي، وقام بالاستقرار بشكل كامل في اليمن، ورفض أي محاولات من الإخوة لجره إلى أي طريق آخر، واعتذر للأخ ثروت صلاح شحاتة الذي طلب من أبي أن يعيد صلته بجماعة الجهاد عام 2000، بعد إبعادها للدكتور أيمن بسبب انضمامه للجبهة العالمية (القاعدة)، كما رفض أبي التحدث مع كثير من الشباب اليمني والسعودي الذين كانوا يحضرون لاستفتائه في أمور جهادية.